أميركا الكردية في الرقة.. مهمة مستحيلة.. فما الرد السوري؟
عندما أعلنت اميركا نيتها «تحرير الرقة» من داعش واتجهت لاعتماد «وحدات حماية الشعب الكردي» أداة لذلك طرحت علامات استفهام كبرى حول ملاءمة الوسيلة وجدية اميركا في المهمة.
ورغم ان العبارة التي استعملت من قبل اميركا لا تلائم الوضع، لان العملية الأميركية انما هي ابدال معتد على الرقة بمعتد آخر أو مغتصب بمغتصب لان التحرير الفعلي لا يكون أساسا إلا من قبل الدولة السورية بقواتها المسلحة والذاتية والحليفة كما حصل في تدمر مؤخراً، لذلك وضبطا للمصطلحات يمكن توصيف المهمة الأميركية الكردية المعلنة في الرقة بانها صراع على الرقة وليس سعياً لتحريرها.
وبعد هذا التوضيح نعود إلى أساس الموضوع، لنناقش مصير العملية التي تقودها اميركا باتجاه الرقة وهل ستؤدي فعلا الى اخراج داعش منها وحلول الاكراد فيها برعاية أميركية بديلا عنها؟ ثم لماذا تسعى أميركا لعملية الابدال هذه وما هي الخلفية التي تحكم السلوك الأميركي في الامر علما بان اميركا هي من اخترعت داعش وتستثمر فيها وترفض اجتثاثها رغم كل ما تقول وتدعي.
في موقف ومقال سابق تعرضنا للأهداف الأميركية سياسيا واستراتيجيا في هذا الموضوع (مقالنا في جريدة الثورة تحت عنوان الميدان ودوافع التحرك الأمريكي نحو الرقة والموصل…والنتيجة؟) ولن نردد ما سبق وذكرناه تجنبا للتكرار ولكن ولمزيد من التفصيل ولتركيز الموضوع وإضافة لما ذكر نتوقف الان عند أربعة أمور أساسية بدأت تلوح في الأفق ترمي الخطة الأميركية في الرقة إليها كالتالي:
– الأول يتصل بنية أميركية واضحة للضغط على داعش للتوجه شمالا وبالتحديد نحو حلب لاتخاذ ما يلزم من تدابير ميدانية لمنع الجيش العربي السوري من تنفيذ المعركة التي يعد لها في حلب لان حلب لو تم اكمال تحريرها من قبل الحكومة السورية الشرعية لحسمت مصير الحرب في سورية كلها ولقلبت المشهد الى صورة لا تجد اميركا بعدها ما تفاوض عليه لترسيخ مصالحها في سورية.
– أما الثاني فيتصل كما يبدو بالإيحاء بجدية التقسيم ومشروع الفدرالية السورية الذي تم الحديث عنه من قبل اميركا وروسيا والذي أكد عليه بصورة ملتوية او مقنعة فيما وصف بانه مسودة روسية لمشروع دستور سوري جديد، وفي هذا الامر او هذا التلويح تكون اميركا حققت غرضين في الان نفسه، غرض باتجاه الاكراد بإنعاش حلمهم بالحكم الذاتي او الاستقلال الناجز وجعلهم يرتمون في حضنها ويخدمونها كما تريد، وغرض باتجاه الحكومة السورية للضغط عليها في موضوع حساس هو وحدة البلاد ومركزية السلطة الأساسية فيها.
– الثالث يتصل بالسلوك السوري الميداني ، حيث ان اميركا قد تكون في موقع يهدف الى استفزاز سورية و جعلها تتوجه الى الرقة لتحريرها لقطع الطريق على المناورة الأميركية الخبيثة وهنا يكون في الامر سلبيتان من الوجهة السورية وفيهما مصلحة لأميركا: السلبية الأولى تتصل باحتمال عدم جاهزية الجيش العربي السوري الان لفتح معركة الرقة ما يعني دفعه الى معركة لم يحضر لها بما فيه الكفاية فان دخلها فانه يخسر فرصة معركة حلب و قد يضيع إنجازه في تدمر و يفشل في الرقة او يستنزف فيها فتكون الخسارة مثلثة ، و الثاني يتصل بالمواجهة المحتملة بين الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة و وحدات الحماية الكردية من جهة أخرى ما يدفع الأخيرة للارتماء نهائيا في الحضن الأميركي و العداء المطلق للحكومة المركزية في دمشق و هذا يخدم المصلحة الأميركية في انتاج بيئة تفتيت سورية و منع توحيدها .
– اما الرابع فيمكن الحديث فيه عن نية أميركية للضغط على تركيا لتكون أكثر ليونة وأكثر طواعية في الاستجابة للمطالب الأميركية والتصرف حيال داعش والاكراد في الان نفسه بما يخدم هذه المصالح. نقول ضغطاً وليس أكثر ولا يمكن ان نماشي من يقول بان المهمة ستشكل مدخلا للمواجهة بين تركيا واميركا اذ لا يمكن ان ننسى ان الطرفين شريكان في حلف دولي واحد هو الأطلسي ولايتجاوز الخلاف في الرأي بينهما تبادل المواقف ليس أكثر.
والان ومن يراقب الميدان يجد ان عاصفة إرهابية تهب فيه، من شمالي الرقة الى اعزاز، ثم عفرين، عاصفة تخدم بمعظم عناصرها الاهداف الأميركية التي ذكرت، حيث اننا نسجل ما يلي:
– توجه داعش مباشرة الى مارع واعزاز و انطلاقها للسيطرة عليهما و طرد النصرة و فصائل إرهابية أخرى من المدينتين و من محيطهما ، و ما تم حتى الان يعتبر إنجازا لداعش يبنى عليه و يخدم الاهداف الأميركية في تكثيف الوجود الداعشي في الريف الشمالي لحلب ما يجعل اميركا اكثر طمأنينة الى ان معركة حلب باتت اكثر صعوبة و اكثر تعقيدا بوجه الجيش العربي السوري في ظل احجام الطيران الروسي عن تقديم الدعم الجوي المناسب للقوات البرية السورية والحليفة التي اعدت لمعركة حلب الكبرى ، خاصة و ان روسيا اليوم تؤكد على وقف العمليات القتالية و التحول الى العمل الدفاعي عن المراكز القائمة و توجيه الضربات الاستباقية فقط للمجموعات الإرهابية اذا تبين انها تعد لهجوم مؤكد على مراكز الجيش العربي السوري ، فالاستراتيجية الروسية اليوم لا تتطابق مع منطق استكمال التطهير بل تتوافق مع منطق حفظ المكتسبات و الإنجازات السابقة و بالتالي تجد اميركا في هذه الاستراتيجية ما يريحها خاصة اذا استثمرت الوقت و دفعت الجماعات الإرهابية التي تستثمر فيها لقضم منطقة هنا و السيطرة على منطقة هناك و انتزاعها من يد الحكومة السورية .
– التحرك العسكري التركي باتجاه عفرين بعد تعاظم الهواجس التركية من التحرك الكردي ما دفع تركيا الى ادخال قواتها النظامية الى الداخل السوري علانية و تركيز الحواجز فيه بعمق 700 متر بعيدا الحدود ، في مهمة ارادت منها تركيا توجيه ثلاث رسائل لأميركا و للأكراد و لسورية أيضا .تعترض بموجبها على الاحتضان الأميركي للأكراد و تسجيل اعتراضها عليه الى حد وصف داوود اوغلو التصرف الأميركي بالنفاق ، و لتقول للأكراد انها لن تجاري حلمهم في سورية و لن تسمح بربط منطقة عفرين في الغرب بالمنطقة الكردية في عين عرب في الشرق ، اما لسورية فأنها تريد التأكيد على جديتها باعتبار ما يجري في الشمال السوري جزءاً من امنها القومي . وان التصرف التركي بهذا الشكل ورغم تناقضه الظاهري مع الموقف الأميركي الا انه يصب في العمق والنهاية في خدمة المصلحة الأميركية لأنه يعقد القضية ويخدم فكرة حرب الاستنزاف التي تتمسك بها اميركا طيلة ما تبقى من وقت في هذا العام.
– ارباك كردي واضطراب وتهيب الموقف مع شعور بالعجز والخطر المتأتي عن السير قدما في مهمة دخول الرقة، ما يجعل الاكراد وتحديدا وحدات حماية الشعب في موقف غير سهل، فإذا قدر الاكراد المواقف بدقة فانهم سيدركون ان طاقاتهم لا تمكنهم من انجاز المهمة وان ال 1000 جندي وضابط أميركي الذين جاهروا بوضع شعار وحدات الحماية على صدورهم لن يقاتلوا معهم بل سيكونون في الخطوط الخلفية للقيادة والاسناد من الخلف لان اميركا غير مستعدة لاستقبال التوابيت انطلاقا من الرقة كما انها ليست بصدد حسم معارك وإنجازات نهائية. فضلا عن ان المزاج المحلي العام لا يوافق الاكراد في النظرة الى الامر ولا يوافق على استبدال مغتصب بمغتصب في الرقة وقد فهم الاكراد ذلك كما يبدو وأعلنوا انهم لن يحكموا الرقة بل تترك لأهلها في موقف له دلالاته البليغة.
وعلى هذا الأساس نرى ان ما يقال عن «معركة التحرير الأميركي للرقة»، ليس أكثر من مناورة لإبدال القوات التي تحركها اميركا ولنقل داعش الى مكان تكون الحاجة اليها فيه اكثر الحاحا في خطة أميركية خبيثة لخدمة حرب الاستنزاف التي تريد اميركا منها منع الجيش العربي السوري من استكمال التطهير والتحرير الفعلي ومنعه من تراكم الإنجازات في الميدان ومنعه من الاحتفاظ بالأرجحية فيه، كما انها تشكل لأميركا ذريعة لتأجيل استئناف تحريك العمل على المسار السياسي الذي ترى انه لن يعطيها شيئا مما تريد الان بسبب عدم امتلاكها لأوراق ضغط كافية.
اما سورية وفي مقابل هذه الخطة الأميركية الخبيثة فإنها ماضية في المواجهة الدفاعية الصحيحة حيث نجد ان الجيش العربي السوري و مع او بمعزل عن الدعم الروسي (لان لروسيا حساباتها القائمة على محاربة الإرهاب و تهيئة ظروف الحل السلمي) فان الجيش العربي السوري و حلفاءه في محور المقاومة وضع استراتيجية ملائمة للموقف المستجد، استراتيجية تقوم على اركان ثلاثة أولها احتواء أي عملية عدوان و هجوم إرهابي جديد على مواقعه وافشالها، توجيه الضربات الاستباقية المؤثرة و المدمرة لأي طاقة هجومية يعدها العدو لمنعه من الهجوم ، استكمال عمليات التطهير و توسيع المجال الأمني للمدن والبلدات والمناطق العسكرية بالقدر الذي تتيحه الإمكانات المتوفرة دونما مغامرة غير محسوبة و دون الانزلاق الى استدراج تنصب فيه الافخاخ و قد سجل الجيش في استراتيجيته الجديدة نجاحا ملفتا يؤكد على ان الخطة الأميركية في الرقة لن تحقق أهدافها لا بل ستكون مهمة مستحيلة.
عن صحيفة “الثورة” المقال للعميد الدكتور أمين محمد حطيط (استاذ جامعي وباحث استراتيجي)