«هستيريا» … لا شيء يبقى سوى الحبّ
تتدفق لحظة التأهب للشروع بعرض الهستيريا، في التقاط الجمهور لمعنى المسرحيّة المكشوف من خلال عنوانها المعلن عنه سلفاً، فكيف لا وهو يدّعي الوضوح! لكن اللون الأسود الذي قدّمته عتمة المكان شارك في ترك مساحة قاسية للتأهب فعلاً، ومع صوت موسيقى ضعيف يتلوه صراخ المجانين تبدأ اللعبة.
مسرحيّة هستيريا هي من هستيريا الواقع الداخلي والخارجي الذي عانى منه المواطن السوري في مرحلة زمنية تجاوزت السنوات الثلاث، لتزخمنا كمشاهدين بمرآة المواجهة للكثير من فوضى الأسئلة، التي تعثرت النفس بها إن صمتاً أو صراخاً، فكلّ مشهد من المسرحيّة كان صاخباً في ترك الأسئلة التي واجهت المواطن السوري لاسيّما الذي تحدى الظروف وبقي صامداً في أرضه المقدّسة.
الاسم يرمز للجنون، بل لحالةٍ أعلى منه فيها كلّ الهبل مع الحمق، والغفلة، والسفه، وغيرها مجتمعين في مغزى واحد بسيط معقد. ومع تعالي الصرخات والصدمات التي أكد عليها العرض منذ البداية يأتي السؤال القاسي والذي قُدّم بصورة مباشرة في ثنائية متلازمة وهي: أولاً لماذا وصلنا إلى هذا الحال؟ وثانياً تعبنا من هذا المُعاش. وبعدها تبدأ ذيول العرض بالتمدد ما بين سخرية القدر، وقهر الظروف، والتي في الحالين جاء ضحيتها الإنسان. وللعرض خصوصيّة امتزجت ما بين الاتضاح والغموض، وهذا ما منح الحكاية سحرها الجميل، والذي جلد الجمهور في صدمة الحقائق وكره قبولها، وفي مشاهد الاغتصاب المتكررة، وقع الجميع في ذاك الشعور المقيت، والذي بصورة أو بأخرى ذكّرنا بانتهاك الحدود وسلب خيرات البلد وسرقة مواردها والرغبة الغريبة في انتهاك الشرعيّة وغيرها الكثير. إلا أنّ حرجاً وقع به المخرج جهاد سعد – دون قصدٍ بالتأكيد – فهناك مزجٌ بين الحبّ والجنس، فما تشير إليه الدراسات الحديثة هو أنّ الغالبيّة العظمى من أبناء الجيل الجديد يقع في لبسٍ واضحٍ إذّ إنهم لا يفرقون بين (الحبّ والجنس)، وهذا ما سقطت به معظم مشاهد هستيريا للأسف.
هناك إيقاع ثابت اعتمده العرض يتمثل في حالة السقوط أو الانهيار أو التلاشي المفاجئ، وقد نجح الممثلون في إيصال الحالة من خلال تكرارها في الوقت المناسب، وكأنّها حالة مرضيّة مترافقة مع الزمن الحالي، فبالرغم من السعي الدؤوب لكلّ واحد منّا حسب نشاطه وواقعه إلا أنّه يصطدم فجأة بمستوى مفروض عليه يدعوه للسقوط المؤقت أو الانهيار المزعج أو التلاشي المفرط في تطرفه نحو السلب. وبالرغم من ذلك فقد رسم العرض بسمة ودمعة معاً، فالكوميديا الساخرة نُسجت بامتياز المخرج واجتهاد الممثلين ككلّ وانتصار روح الجماعة في الأداء. كما نجحت المسرحيّة في مزج لهجتين هما المصريّة والحلبيّة بطريقة ذكيّة، بل كانت اللهجة الشاميّة قائدة الدّفة بحضورها الإسعافي، وهذا المشهد الذي تنازع بطولته كلّ من طلاب التمثيل كنان حميدان وحسن دوبا ومغيث صقر ومهران نعمو وريمي سرميني وكان احترافي الصنعة كسيناريو غريب وقريب معاً، فابتعاد اللهجات مألوف وتمازجها غير متوقع لذلك كان غريباً، ولكن أداء الممثلين جعله جميل الانسجام ومقبول بسرعة للجمهور الذي صفق مراراً ومراراً، وقد جائت إضافة اللهجة اللبنانيّة كلمسة جميلة الحضور لمرّة واحدة من خلال مشاركة للفنان أيمن عبد السلام، وعلى الرغم من انسجامها في بنيان العرض إلا أنّها لم تتكرر أكثر من مرّة واحدة، ويبقى للمخرج رؤيته الخاصة في ذلك.
للديكور بساطة مُشكلة من مساحة للخشبة احتوت النسبة الأكثر من المشاهد، وهي الأكثر قرباً من الجمهور، ويأتي بعدها حاجز من أكياس الرمل لم يتم استخدامه إلا لمشاهد قليلة، ولولا المشهد الأخير الذي ارتبط بين ضوء الشمعة ورمزية بقاء الحبّ لما كان لهذا الجزء من الديكور أهميته اللازمة، وبعده جاء نصف حائط يخفي الممثلين، وتأتي الأصوات من وراءه ليزيد من اهتمام الجمهور لما يجري من تحضيرات ومفاجئات، أمّا النصف المفتوح فقد جاء مع مشهد آلة البيانو، وهو رمز كبير توقعنا أنّ يحمل غاية أكبر من تجسده المقصود من المخرج جهاد سعد، إذّ لم تأتي منه إلا أصوات الذهول والاستغراب واللون المجنون، فقد كان متوقعاً أن يكون له حضور أكثر فاعلية خاصة في المشاهد الأخيرة من المسرحيّة والتي بدأت بالاتجاه إلى لغة الحبّ الصافية والباقية، لا سيما مع الجمل التي خطّتها كلّ من مي السليم وولاء العزام، والتي تسوق العرض إلى أنّ لا شيء يبقى سوى الحبّ، وهذا يتناغم مع لغة البيانو الحامل لأوركسترا كاملة.
بقي الغموض يكتنف رسوماتٍ على لوحٍ مقابل المتلقي يأخذ شكل الهرم، وعين الحقيقة، وحروف، وأرقام قد لا تنسجم في الحالة الرمزية كثيراً مع ما قام به الممثلون، وهذا الأمر يحتاج شرحاً لا سيما مع اختلاط المفاهيم مؤخراً بين رموز غاية في الأهميّة، وهي من قلب حضارتنا، وبين سرقتها من جهات أخرى غايتها التدمير والتزوير!
بدا أكثر المشاهد قاسياً وناجحاً معاً، بإسقاطات قاسية وجارحة، صدمت مشاعرنا بقوة ودون رحمة ما قدّمه مهران نعمو وهو يناجي الله بصراخه العالي، ونظراته المتعلقة بالسماء المترجية إجابة الرحمة، فلم يكن أمام المشاهد سوى الانهيار ليلعب هو بدوره حالة السقوط أو الانهيار أو التلاشي، فيكون جزء من اللعبة ومستجيب حقيقي لإيقاع العرض المسرحي الهستيري، والكثير من الحضور حمله المشهد للبكاء دون سيطرة.
لكن المشهد الأخير الذي قدّمته ولاء العزام في تذكّر حبيبها المغادر، والذي وعدها بالرجوع، كان شفافاً جداً وصافياً، ليكاد يوضح صورة من المنطقة الأرواحية التي تتحكم في رضاها وسلامها بقوة في مصير أهل الأرض التعساء بسبب عواطفهم وتعلقهم بمن يحبّون، وما ساعد ذلك تكرار الكلمات التي قام بها حسن دوبا وكأنّه طيف روح تسوق في المكان، ومع لغة الشمعة التي حملها الجميع في تقدمهم وعودتهم.
وللموسيقى إيقاعها الساحر فقد كان فيها اتصال قوي بين قوة الذاكرة، وشكوى الحال، ليأتي صوت المطرب غيث منصور بصورة سريالية جميلة ومتوافقة تماماً مع الغاية الإخراجية.
في النهاية نجح العرض في إيصال فكرته من خلال ترتيب المشاهد وإيقاع الحركة اتفاقاً إلى أنّ الحبّ هو الذي يترك أثره فينا رغم الحقد ورغم الأقدام الغريبة التي وطأت الأرض الطيبة… إلخ
يذّكر أنّ مسرحيّة هستيريا في عروضها الستّة ستقدّم في مسرح سعد الله ونوس في المعهد العالي للفنون المسرحية برعاية الدكتورة لبانة مشوّح وزيرة الثقافة، وهو مشروع التخرّج الثاني لقسم التمثيل، ومن تأليف وإخراج جهاد سعد، وبقي أنّ نذكّر بالممثلين: حسن دووبا، رهام قصّار، ريمي سرميني، كنان حميدان، مغيث صقر، مهران نعمو، مي السليم، هلا بدير، ولاء العزام.
البعث ميديا – عامر فؤاد عامر