مساحة حرة

تطهير حلب معركة تاريخية

يختزن السوريون في ذاكرتهم دفء العلاقة التي ربطت السيد الرئيس بشار الأسد بحلب قبل عام 2000 وبعده.. إلى يوم الناس هذا. كما يتذكّرون زيارات سيادته إليها وإقامته بين أهليها وتجواله في شوارعها، وقد بادله الحلبيون المشاعر نفسها حبّاً بحبّ وأملاً بأمل. والحقيقة فلحلب في الوجدان رمزيتها التاريخية والواقعية.

فمن منّا ينسى صمود الحلبيين وبأسهم وكرمهم وكبرياءهم الذي أبدوه منذ مطلع الحرب على سورية، وتصديهم للمؤامرة عليها؟، لكن نواجذ الشرّ تكالبت من أربع جهات الأرض على هذه المدينة العريقة، فَفَعلَ التكفير والإرهاب فيها ما فَعل.

لماذا حلب اليوم تملأ الدنيا وتشغل الناس؟ المتنبي قال فيها منذ أكثر من ألف عام: كلما رحُبت بنا الروض قلنا.. حلب قصدنا وأنت السبيل. والزعيم الروسي الرئيس بوتين خاطب المؤتمرين في لقاء فالداي للمباحثات الدولية الثالث عشر في 27/11/2016 قائلاً:

“تسمع في جميع الأوقات: حلب، حلب، حلب… ولكن هل ينبغي علينا المحافظة عليها وكراً للإرهابيين، أم  تدميرها بدلاً من ذلك، مع بذل كل ما في استطاعتنا لتخفيض عدد الضحايا المدنيين؟ فإذا كان ينبغي علينا عدم المسّ بأي شيء فإنه يتوجّب إذن التخلي عن تحرير الموصل، فلنحافظ على الوضع القائم هذا، ولنترك مدينة الرقة بسلام! غير أن شركاءنا الغربيين يقولون لنا دائماً: ينبغي مهاجمة الرقة من أجل تدمير هذا الوكر الإرهابي. ولكن هناك أيضاً مدنيون في الرقة، وهذا المنطق التبريري يعني التوقف عن محاربة الإرهابيين”.

واليوم تمضي قواتنا المسلّحة بنجاح باهر مع أهلنا الشرفاء في حلب قدماً في تحريرها، ثم تطهيرها من رجس الإرهابي التكفيري. هذا النجاح المتوقّع والمنتظر قضّ مضاجع أطراف العدوان على سورية، فاحتكموا إلى الجنون والأوهام والقلق المضني بعد أن فشل احتكامهم إلى السلاح. أرسلوا ديمستورا إلى سورية وخاض مباحثات فشل فيها حين ابتدع أو ابتُدِع له طرح الإدارة الذاتية، أو المحليّة. هذا الطرح الذي يصبّ في خانة تحقيق هدف واضح يطمح إليه الغرب والرجعية العربية والعثمانية وهو إقامة “أقاليم محددة للجهاديين” على حد تعبير مراكز الأبحاث في الغرب. وهذا ما كانت قد اعترفت به كلينتون.

فشل هذا الهدف، ومع تتابع هزيمة الإرهابيين بدأ الغرب يتاجر بالورقة الإنسانية. لكن أهلنا الذين خرجوا من الأحياء التي كان يسيطر عليها الإرهابيون فضحوا هذه المتاجرة وقالوا ما سمعناه جميعاً. ثم فقد الغربيون أيضاً الورقة العسكرية في حلب وسط مخاوف من أن يكون ذلك مقدمة لفقدانها على الأراضي السورية كافة فأفصحوا بالأمس عن سياسة الكيل بمكيالين في محاربة الإرهاب “معتقدين” أن إرهابيي حلب ألطف من إرهابيي الموصل؟!.

تعالت أصوات التكفيريين ولجأت دويلة قطر إلى تطمينهم بعد أن أسرف الزنديق المحيسني بالوعيد، ثم بالوعد بالحوريات اللائي طال انتظارهن وهن يتأملن صواحبهن بين الفرار أو الردى، وكلاهما مرّ.

أما أردوغان المأفون، ومعه حثالة العصر ووحوشه، فقد رمى كل أوراقه وأحسّ متأخراً بخيبة الاستدراج إلى كمائن خطيرة في المنطقة لن يستطيع الخروج منها إلا عبر تفاهمات كبرى مربكة لأنقرة ومذلّة لها وستجد نفسها مضطرة للقبول بها مع دفع أثمان باهظة للأوروبيين والعرب والكرد والفرس والأرمن… بعد أن تيقّنت أنها تسير في أوهام متتابعة لم يعد يجدي معها إعادة التفكير بالعواقب. وسنرى كيف فاتها القطار، وقريباً سيفوت كل من حالفها من رعاة الإرهاب.

إن مشروع المتآمرين على حلب هو نفسه مشروع المتآمرين على شعبنا وبلادنا، على قضايانا الوطنية وحقوقنا ومقدساتنا عرباً ومسلمين ومسيحيين، لكن حلب كان للمؤامرة فيها بعدٌ جيواستراتيجي خاص وفريد ومخيف صار الآن أدراج الرياح. ولهذا قال الزعيم بوتين وغيره كثيرون: حلب، حلب.

ففي كل منطقة دنّسها الإرهابيون في حلب والقصير والغوطتين وحمص وحماة والشمال والجنوب كان هناك هدف خبيث للبترودولار والرجعية العثمانية، هدف بمثابة مشروع معاد للشعب وللوطن وللأمة، وها هي الهزائم تتوالى والمشاريع تُحبط.

لكن حلب مكسر ظهر المشروع الأكبر، وإن غداً لناظره قريب، ستتحرر الأرض، وتتطهر القلوب والعقول، ويعود شعب سورية ومعه الشعب العربي إلى وعي الهوية والأصالة والانتماء، وسيُلقى الإرهابيون والتكفيريون وداعموهم في مزابل التاريخ.

د. عبد اللطيف عمران