ثقافة وفن

شجرة الميلاد المنسية….

كان آخر دعاء لها تحت سقف غرفتها في ظل وابل الرصاص والمدافع وكافة أنواع الأسلحة… قالتها بصوت مرتجف: “أرجوك يا الله أن لا تحرمني من سقف بيتي…”
كانت ليلة حالكة بظلامها ورعبها…الا أنها لم تكن تعرف أنها ليلتها الأخيرة في منزل بنته بأحلامها وبشقاء زوجها..منزل صاخب بأولادها وزوارها ..
فجأة تحول إلى جدار باردة فارغة من روادها صامتة كصمت القبور..نورها خافت كنور شمعة تتأرجح من الريح..ليس هناك سوى أحجية فقدت قيمتها أمام الحياة ..أمام الضحكات.. أمام الدفء…
غادرته في أول الشفق مع أسرتها على أمل العودة… لم تكن تعرف أنها غادرته للمرة الأخيرة…ماذا كانت فعلت لو علمت أنها الأخيرة..????
هل يتسع ذكرياتها في حقيبتها الصغيرة التي لم تتسع سوى للأوراق الثبوتية..??
هل كانت ستحمل معها حاجياتها التي امتلكت كل واحدة منها ببسمة ودمعة تعب..??
هل كانت ستلملم ذكريات أولادها التي رسختها بصور منذ طفولتهم إلى وقوفهم على مسارح المدارس ونيلهم شهادات دراستهم وشهادات تقدير افتخرت فيهم بيوم ما…
وماذا بعد…????
هل يعلم من يتقاتل في حرب الشوارع ماذا سلب من أعمار???
ماذا سلب من ذكريات???
من حياة ????
من أمل ???
من أحلام ????
كانت تنثر حلما في كل زاوية من زوايا مملكتها…وحبا في كل ثناياه…وأملا تستقبله مع خيوط الشمس الأولى من كل صباح الذي كان يتسلل من نوافذ غرفتها…
بكيت هنا ..وضحكت هناك…واخفت حزنها بزاويتها المفضلة…اخفت وردتها الاولى في كتاب ما ورفعته في رف من رفوف مكتبتها..
هناك كان عشقا..وهناك كان وهما تمسكت به..ولوسادتها أخبرت خيباتها…
في زاوية مخفية اخفت أول هدية عيد الحب من أبيها….سحبت من ذراع أمها وهي تحضر لاستقبال زوارها في يوم العيد لتخبرها عن إحساس أول مرة تشعر به.. وتسألها يعيون لم تشهد هذه اللمعة من قبل ..ماما ماذا حل بي.. أهو العشق أو الوهم….لترتسم على وجهها ابتسامة عريضة وتقول :..”كبرنا وبدأنا نعشق.”…….كم من خيبات اولادها لملمتها من هنا وهناك وكم من خيباتها تركتها تغفو في ثنايا قلبها ….
انتظرت شجرة الميلاد كثيرا في مخبأها..لكن ما من احد انتشلها من ظلمتها..ولا شهدت صخب تزيينها بالضحكات والأغاني…..بقيت مخفية تحت الغبار الذي مسح أثرها ونسف كل زينتها..
كانت الأجمل والأكثر ضياءً…
كانت الأمل والفرح لاستقبال الميلاد المجيد.
انتظروا الزوار كثيرا ليشاركوا في تدشينها.خلف الابواب المهجورة… وانتظرت الذكريات لتستعيد زهوتها وتنتعش من جديد هذه الذاكرة المنسية….انتظرت كثيرا لتعيد المراسم والطقوس وفي قلبها شغف العودة لاستقبال عام جديد ملؤها الحب والسلام والامان…
ما الذي يمكن ان يخفيه الغبار الذي كان
الشاهد الوحيد لحياة كانت حياة….وما الذي يمكن ان ينسفه قذيفة ما جاءت على عجالة لتحط رحالها في منزل مهجور..???.ليغطي صوته المدوي ما تبقى من صدى ضحكات وفرح… ولتأخذ معها آخر خيوط الأمل بالعودة ..
من الممكن ان تمحي اثرا ماديا من ارض ليس بارضك ولكن من المستحيل أن تمحي اثر المادة من الحياة…
سنكمل بما حملناه من ذكرى،ن ستعيدها مع كل عيد ومناسبة فرح أو حزن ..
ستندثر هي الأخرى في ثنايا الأيام..
ربما يأخذها النسيان في ظل زحمة الحياة..
لكننا نحن على قيد الحياة…على قيد الأمل ..على قيد الحلم..
ربما نسفت أحلامنا وأمانينا لكننا نحن ننسج كل يوم حلم جديد بمعطيات جديدة..
والآن بعد أن فقد الزمن قيمته الوهمية..ها قد رجعت الحياة إلى ما تبقى من مدينتي المنكوبة..لتستعيد بخجل زهو العيد..ولتنير أشجار الميلاد بأضوائها الخافتة .. وبضحكات عادت لترسم الحياة في زقاق المدينة المنسية… وبعبق الياسمين وبياضها تعود لتحياااا…
خسائرنا ليست بكبيرة…إلا أننا لم ولن نعيش مرة أخرى ما خسرناه…لكننا سنعيش الأجمل….
هي الحياة ليس لنا متسع من موطئ قدم فيها ..لكننا لدينا متسع من الحب والأمل والحلم…

ميرنا غالي