ثقافة وفن

وطن ومطر وطفولة

لا زالت علاقتنا مع هذا البدائي “المطر” بدائية أكثر منه، يهرب غيرنا منه ونتسابق لنمشي برفقته المبللة، نركض إلى النوافذ صغارا وكبارا لنستقبله بابتسامات وأدعية تكرج من القلب قبل الشفاه، بأن يدم هذا الخير المحمل بعبق أهل السماء.
شيء ما يتغير في دمنا عندما يبدأ بالانسكاب من دلو السماء المقلوب، يتسابق وصوته للفوز بتصفيق بهجتنا، نصبح ألطف، تختفي الحرب، يخرج الود مرة أخرى يتمشى بين الناس، تُغسل الهموم والدموع والأحزان، كما تُغسل بتلات الياسمين التي تعربشت على الشرفات وأسوار البيوت وأسيجة الحدائق العامة، تلك صبية أرخت بكسل رأسهاعلى كتف حبيبها، تاركة شعرها يلهو مع قطرات شفافة تغرقه، وذاك رجل يحمل في يده مظلة مقفلة، يشعل سيجارة وينفث سحابها بين جدائل المطر المتراقصة، وهو ذا جندي يقف كما لو أنه الطود وعن أكتافه تنسدل جدائل المطر مزاحمة بندقيته على منكبه الشامخ، يبادل المارة الراكضين التحية، يروح ويجيء تحت المطر كما لو أنه يتمشى مع صديق قديم ، لكن صراخ وليد جديد يملأ الحي، قطع صوته زمجرة المطر الغاضب وبدد وحشة الليل، ليس راضيا على ما يبدو من الأجواء بشكل عام، لكنه طفل يحبه الله ، فلقد اختار له أن يولد في هذا البلد العظيم بكل الجراح التي تثخنه، انتقى له بلادا شمسها عروس خالدة ومطرها يحيي الأرواح، بردها دافئ كيف لا أعرف، وحرها لطيف أيضا كيف لا أعرف ولا يعنيني كما لن يعنيك يا بن وطني، الوليد الذي تنفس للتو أول نسائم الجنة، أن نعرف، ستجد أجوبة حاسمة عند التين والزيتون –أجدادك في المحبة- أما الآن فلا تشغل بالك يا صغيري ونم هانئا قرير الفؤاد، أهلا بك بيننا أعمامك وأخوالك وأحبتك، لن تجوع يا ولدي هاهنا وعندما يحين دورك بالألم سنكون معك وإلى جانبك، لن تُضام يا ولدي وأنت بن الكرام، فإخوة أبيك الشهيد الطيب الثرى ورفاقه، يزرعون لك ولجيلك شجر سرو لا ينحني ولا ينكسر، يتمايل قليلا ليرد عنك إلا ما يريد قلبك ، فاعرف لقلبك ماذا أنت تريد.
مطر لم يغير عاداته في هذه البلاد التي يحبها، فيزورها كل عام بالتوقيت ذاته، وطفل حديث الولادة يتنفس رائحة الحرب والتراب المبلل، ووطن لا تكسره الشدائد مهما عصفت به زوابع الغدر والطمع، هكذا تستمر الحياة وهكذا يتبدد الشك باليقين، وهكذا نعرف كما عرف أجدادنا، بأن الحق والخير والجمال ليست قيما مضافة بل هي أساس الوجود وهي نهج بلاغته في الدلالة على أن الوطن والمطر والطفولة هي ثلاثية الخلود التي تحيل البارود والدم والنار إلى كروم مجد دانية قطوفها، وصبح مشعشع نوراني، لا ريب سينبلج عما قريب.
أهلا يا بن هذا التراب الكريم، قم وانظر لهذا المطر وهو يقف على نافذة غرفتك الصغيرة ليطمئن عليك ويرحب بك.
تمّام علي بركات