مساحة حرة

“المثقفون” العرب وخيانة الوصايا

إذا كان الأدب هو محرك الثورة الفرنسية وأيضا البلشفية وفي وقت لاحق العديد من الثورات في عدة بلاد من دول العالم، بداية من الثورة السورية الكبرى وصولا و دون نهاية، إلى ثورة “كاسترو” وتشي غيفارا” -من يريد معلومات عن هذا الأدب ما عليه إلا أن يذهب إلى غوغل ويبحث عنها، فهذا ليس موضوع حديثنا الآن-، فيبدو أن هذه “الثورة” –ربيع الموت الذي جاءنا بلائه منذ قرابة 7 سنوات-، ونظرا لما آلت أليه أحوالها، تعاني من قل الأدب! بل أنها بلا أدب نهائيا! وإذا كان علينا أن ننظر اليوم إلى أين ذهبت هذه “الثورة” وكيف تكسرت البلاد والناس بفعلها، فهذا يدل على رداءة الأدب الذي كان محركا لها كغيرها من الثورات هذا إذا كان من أي علاقة للأدب في هذه الكارثة التي نَظّر لها الشيطان “هنري ليفي” كما وصفه الأوربيون أنفسهم “شيطان الثورات” ولم يحضر فيها ولو سطر واحد من الفكر العربي الحقيقي، اللهم ما عدا مطلع قصيدة ” أبو القاسم الشابي” ( إذا الشعب يوما) ليتبن لاحقا أن حضور هذه القصيدة الجميلة والحماسية في بداية هذا الحراك القاتل، لم يكن أكثر من شماعة أو قناع تحته يختبئ الوجه الحقيقي البشع لما حدث.
المشكلة الحقيقة تكمن في وجود الكثير من (الأدباء) و المفكرين أو أشباههم في مفاصل هذا الوباء “عبد الرزاق عيد” مثلا ، ولكن ما هو مفقود وغير موجود هو الأدب! ولو كان ثمة أدب حقيقي وأدباء وقفوا موقف العقل والفكر مما جرى ولم ينحدروا تحت ضغط الدولار إلى خطاب الشارع الجاهز سلفا، بحق لما وصلنا إلى هنا، وهذا الخطاب “الشوارعجي” جاء جله كما سمعنا وسمع العالم وشاهدنا وشهد العالم، شتائم طائفية مقيتة ومقرفة وتهديد بالذبح والسبي وكأننا في زمن أبو جهل، يربأ كل من يحترم العقل وأدواته في سماعها فما بالنا في تبنيها.
ولكن هل هذا الانحدار الثقافي في الخطاب الذي أصبح مستوردا للأسف بقصد أو دونه – فلنأخذ بعين الاعتبار أن ثمة شريحة من الجهلاء الذي ينقلون ما يصل إليهم بطريقة القص واللصق دون أدنى دراية بخطورة ما يفعلون، وهؤلاء كثر والحمدلله وتكتظ فيهم وسائلنا الإعلامية بأنواعها-، والابتعاد عن الناس بحجج واهية ما انزل الله بها من سلطان، هو عارض طارئ على مجتمعاتنا العربية، أم أن له جذور أو فلنقل أساس مهلهل، كان له كبير الأثر في الجرائم التي حصلت بحق الشعوب العربية؟ في الحقيقة إن من يدقق في النتاج الأدبي والفكري الذي تصدر المشهد الثقافي في المنطقة العربية، خصوصا بعد نكسة حزيران، سيجد الكثير من القضايا الملتبسة والخاطئة التي طغت على الفكر العربي، وصارت هذه القضايا التي لا تهم ولا تؤثر بل ولا تُفهم ،كإنجاز الوجودية مثلا في الحالة العربية، أو العبثية وغيرها من المذاهب الأدبية الجديدة، بحجة التجديد وتحت ضغط الحداثة، هي الحالة الأدبية والفكرية السارية في الدوريات الأدبية والملاحق الثقافية والتي لن يغيب عن أكثرها وياللمصادفة، التمويل الأجنبي، تلك المجلات والصحف والملاحق التي راحت تروج للكثير من الأفكار الغربية التي لا تعني القارئ العربي إلا في كونها أشعرته بأنه ليس من مستواها أو على مستوى قراءتها كونه لم يفهمها، ظانا أن المشكلة في ثقافته لا في الهرطقات التي كان يقرأها، حتى ابتلي كل بلد عربي بداء مزمن، تشخصيه تغييب العقل و المضي رأسا نحو التطرف، إما للنص المبهم والغير معروف إن كان حقا نصا أدبيا ويحمل فكرا حقيقيا، أم هو طلاسم فارغة لا أكثر، أو للتطرف الديني الذي صار تهمة تلاحقنا كعرب ونحن أكثر من دفع ثمن وضاعته ووضاعة منبته – ابن تيمية – و المصيبة في كون الكثير من النتاجات “الأدبية” التي تصدرت المشهد الثقافي السوري مثلا منذ السبعينات تقريبا وحتى اليوم ، تبدو وكأنها لجمهور ثاني ،جمهور غائب ولم يخلق بعد!، كما وصفه الشاعر السوري “أحمد علي أسبر” بأنه أي جمهور القراء ليس موجودا حتى، فأدونيس وحسب مقابلة أجراها مع صحيفة إماراتية منذ مدة قريبة، قال أنه لا يكتب لأجيال اليوم، لأنه مشغول بالكتابة لجيل سوف يأتي بعد “200” عام، وربما قال “أدونيس” ما قاله وهو يرى حالة الشارع العربي المتدهور فكريا ومعرفيا بل حتى وأنسانيا، فخجل من كل هذا السوء، كلنا أيضا كيف ابتليت مصر أم الفكر والفن والأدب خصوصا بعد “كامب ديفيد” بانحدار رهيب أصاب شيئا خطيرا من أدبها وفنها “عمر دياب مثلا” وغيرها من البلاد العربية التي يعول عليها في أي نهضة فكرية، كالجزائر التي ابتليت بالتطرف الديني أيضا وعانت ما عانته وتعانيه حتى الآن من نتائجه.
لا أدري حقيقة ما هو الشيء الذي كنت مستندا إليه في قرارة نفسي فيما مضى أنا وغيري الكثير من الناس وعلى كامل جغرافيا الوطن العربي ، حتى كنت مقتنعا بثقة شبه أكيدة بأن المثقف العربي عموما والسوري بشكل خاص، صاحب دور فعّال في مجتمعه ، وربما في مجتمعات الآخرين ، وذلك لكونه من الذين قرؤوا حركة التاريخ بالضرورة وأدركوا بديهية أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن الأحداث تتشابه ،-البعض منهم أثبت بجدارة أنه لم يفكر حتى بالتعرف عليها – إلا أن ما جرى في الوطن العربي الحبيب و سورية بطبيعة الحال من أحداث دامية ، كشف إلى أي درجة كان المثقف العربي والسوري – نسبيا طبعا- غائبا في مجاهل أخرى بعيدة كل البعد عن الشارع والناس، والحال أن بونا شاسعا فصل بين الكثير من هؤلاء “المثقفون” وجمهورهم ، وهذه العلاقة غير الأصيلة التي توهمنا وجودها وتخيلنا أنهم من خلالها يستطيعون التأثير على مجتمعاتهم، للذهاب بها نحو حالة تنويرية راقية كما يفترض أو كما كانوا يدعون بأقل تقدير، بينما هي في الحقيقة ليست سوى علاقة بين قارئ للجرائد والجرائد ، يقرا منها الصفحة الأولى والأخيرة فقط متذمرا من كون الجرائد المحلية مثلا، لا تقول شيئا جديدا، رغم أنه هو من لا يقرأ.
تمّام علي بركات