ثقافة وفن

أبو حميد.. سيد الصهريج الكئيب

بدا صباح “أبو حميد” كئيبا حزينا بلا أي معنى ولا طعم، حتى أنه طلب إلى زوجته أن تقفل جواله أكثر من مرة، لكنه ما يلبث بين اللحظة والأخرى يسألها إن كان ثمة اتصال أتاه من أحدهم، و “أم حميد” تقول له وهي تنظر إلى الجوال المكتمل الإشارة: الإشارة ضعيفة طول بالك يا “زلمي”!.
أبو حميد تغيرت حياته كلها، هكذا ودون أي مقدمات، ولا حتى واحد من أحلام زوجته العجائبية، المسكينة كانت كثيرا ما تخترعها لتعلي همته، بعد أن نصحتها أمها بهذا، وكانت قد حدثته قبل مدة ليست بالبعيدة أنها رأت ” خير اللهم اجعله خير، شفتك قاعد على كرسي وهالمي عم تمشي من حواليك وتخدء خدء”.
أبو حميد” يا سادة كان عاملا خاملا في واحدة من المؤسسات الحكومية التي لا يراها إلا صدفة ومن العام إلى العام، حتى أن البعض من زملاءه القدامى ظنوه مات أو تقاعد، وهو أي “أبو حميد” لم يكن ليتذكره أحد حتى من أقاربه بطبيعة الحال، ولم يكن يذكر نفسه حتى في طفولته، إلا أنه كان دائما على هذه الحال، غير مرئي ولا يترك أثرا في الذاكرة مهما بدا بسيطا، حتى أن تقاسيم وجهه الباردة راحت تعزز هذا الحال، فزوج أخته مثلا، قالها له عدة مرات : “بتعرف أبو حميد ما بذكرك لشوفك!” حينها لم يتضايق “أبو حميد”، فهو يعرف هذه الحقيقة كما أنه متصالح معها، فهي على الأقل ساعدته على نحو ما في حياته ليبقى مستريحا ومتكاسلا، هو يوم أو يومان في العام يمضي فيهما ليقبض راتبه، وكفى الله “أبو حميد” شر السرافيس والباصات والشوارع المزدحمة وفتيات العاصمة الساحرات كما كان يخبره جاره الذي يعمل بائع شاي وقهوة عند كلية الأداب – يا زلمي بيفكو المشنوق عن حبل المشنقة الله وكيلك-، وصار “أبو حميد” بعد ما سمعه من الجار المحترم! في كلا المرتين، يستعد قبل يوم كامل من الذهاب لهذه الرحلة إلى العاصمة، حيث يقضي اليوم الذي يسبق يوم السفر في الحمام، يفرك جلده بليفة الحمام الخشنة بقوة كما لو أن فيه جرب، ويدمدم وهو يسكب الماء الساخن على جسده من “الطست” بكلمات غير مفهومة، لأغنية ربما لم يسمع بها أحد إلاه، وبعد أن ينتهي من كشط كل الصابون العالق على جسده، يقف أمام المرآة بكرشه المنتفخ من أكله المستمر للفلافل وجلده المحمر، كما لو أنه كان يُجلد لا يستحم، ثم يبدأ بمعالجة الشعيرات النابتة في أذنه ومنخاره بواسطة “ملقط الشعر” الخاص بزوجته، بعد أن نسيت هي ذاتها أن تستخدمه ومنذ مدة طويلة ، حتى أن حاجبيها صارا كما لو أنهما جناحا غراب، يبدأ بعدها الرجل “المعجوق” بكي ثيابه التي لم يرتديها منذ عام، يكويها جيدا حريصا كل الحرص على أن تبدو كسرة السروال الأمامية حادة كنصل سكين، ولم يكن يمانع في وجود بقعة زيت هنا أو بقعة طين جفت حتى استحالت وكأنها من أساس النسيج، فمن سيراها أو يلاحظها كما أخبره بائع الثياب المستعملة، بعدها يلمع حذاءه الذي وهبه له أحد المدراء، بعد أن ضاق على قدمه، حينها عاد مفاخرا إلى بيته ونافشا ريشه كالطاووس وهو يقول بصوت عال، حريصا على أن يُسمع كل من أمه وزوجته في آن : “بوط المدير ما لبس حدا غيري بكل المديرية” يبتسم وهو يقولها وكأنه يقول أنه هو من فتح الأندلس، حتى أن فخر “طارق بن زياد” لن يباهي ولن يضاهي فخر “أبو حميد” ذاك في فتحه للأندلس، وهذا في كون “بوط” المدير أتى على مقاس قدمه!.
لكن صباحا قريبا غَيّرَ هذا الحال وبَدّلهُ نهائيا، ليس في الواقع فقط، بل ومن ذاكرة “أبو حميد” نفسها، التي قرر أنها أول أعدائه بعد أن ادرك أبعاده الحقيقية كمشروع فاسد صغير – على شاكلة برجوازي صغير-، حيث تصادف أنه وفي اليوم الأخير الذي قام فيه السيد “أبو حميد” بزيارته التاريخية للوظيفة ليقبض راتبه، تعالي الهرج والمرج عن الموظف الأكثر كفئا لأن يكون قيّما على” سكر المياه” الوحيد السالم في المديرية، وكانت العاصمة قد دخلت في أزمة مياه بسبب قيام مجموعة من “الزعران” بقطع مياه أحد الينابيع الرئيسية المغذية لسكانها، وعندما كانت شخصية كهذه لم تأخذ فرصتها الاضطرارية بعد في توليها زمام المسئولية، فقد وجد فيه المسؤولون فرصة مواتية ليصل أحد من الشعب -وليس أي أحد بل أبو حميد-، إلى منصب خطير كهذا، قيّم “سكر المياه الوحيد”، ومن يومها وعالم الرجل تغير وإلى الأبد كما قلنا، صار جواله لا يسكت، الجميع يريده، يريد طلته، الجميع يريدون رضاه وبركاته وحسناته التي كان يصنعها مع النساء اللواتي كن يقلن له “يخليلك هالشبوبية الحلوة” وهن يمددن مستوعبات الماء الصغيرة باتجاهه، وما كان عليه إلا أن ينظر إلى الوجوه الأكثر بؤسا، فيتجاهلها، أما تلك الغامزة المبتسمة ببلاهة أو بخبث، فكان يملأ لها مستوعباتها حتى تتطاير المياه من أفواهها المدورة، كدليل لا يقبل الشك، على “حاتمية” أبو حميد وكرمه.
“سكر المياه” الموجود في واحدة من القرى البعيدة عن العاصمة، والذي كان “أبو حميد” قيّما عليه، جاء من تنصب عليه قيّما جديدا أيضا من الشعب، واستلم عهدة “أبو حميد” المتمثلة في “بغل” يقود عربة تحمل “صهريج” مياه، توجب على “أبو حميد” ولشهر كامل بأيامه ولياليه، أن يملأه يوميا وفي الصباح الباكر قبل أن تستيقظ العصافير، ثم عليه الانطلاق في هذا البرد القارص باتجاه المدينة، ليبيع الماء، وهذا كان العمل الفعلي ل قيّم “سكر الماء” وعدا عن مكسبه المادي الذي لم يكن يتوقعه في أحلامه، فإن حزنه كان أكثر عمقا، على أن هناك أخيرا من تذكره وتذكر ملامحه، ليس هذا فقط، بل صار يطالب به يوميا، ولا يكل ولا يمل من الاتصال وطلبه حتى وهو نائم، ولم يكن يمانع في هذا أبدا، لا بل حتى أنه كان يستيقظ على فترات خلال نومه ليرى مبتسما، كم مكالمة فائتة تُظهر شاشة جواله ” بس 200 مكالمة” قال أبو حميد مستغربا وفي نفسه ما يحدثه بما لا يرتاح له.
ذهبت الغمزات والمواعيد التي تخيلها مع صبايا العاصمة، ذهبت المشاوير المتوخاة إلى الربوة مع رائحة مشاويها وفراخها التي بقيت مستلقية على الجمر، ولم يتمكن أبو حميد من معاينتها شخصيا، ذهب رنين الجوال، وعاد زوج أخته الذي كان قد اهداه منذ مدة وجيزة ربطة عنق عرسه التي لم يستخدمها بعده ذاك اليوم، عاد إلى تجاهل “أبو حميد” كما لو أنه “صرصار” مقيت، يتحاشاه الجميع، وغير مأسوف على غيابه.
سأل أبو حميد زوجته للمرة الأخيرة، إن كان ثمة اتصال وارد له من أحد الذين لم يعلموا بعد باستقالته المفاجئة، وعندما هزت رأسها نافية، قال لها : تأكدي بالله عليك من حلمك، هل كان الكرسي ثابتا فوق الماء أم أنها جرفته ومن عليه؟ ضحكت أم حميد، ضحكت حتى لمعت عينا زوجها بابتسامة أشعلتها الرغبة، الرغبة المتبقية في قعر روحه فقط.
تمّام علي بركات