سلايدعربي

المثقف المُشتبك.. شهيداً

مقاومة، اعتقال، تعذيب، إضراب عن الطعام، إطلاق سراح، مطاردة، بعدها نال ما تمنى.. بالمختصر تلك كانت حياة الشهيد باسل الأعرج…

كان ندا حتى الرصاصة الأخيرة لم يرض الأسر أو الاستسلام، لم يتوقع القتلة أن يكون بانتظارهم ويستقبلهم بنيران رشاشه وظل يطاردهم برصاصته بين كر وفر حتى نفدت ذخيرته، وفارق الحياة كما أراد،  تاركاً بذلك «انتفاضة القدس» أمانة لدى الشباب.

بدأت قصة مطاردة الشهيد باسل حينما رفض العودة إلى منزله في بلدة الوجلة جنوب بيت لحم بعد الإفراج عنه من سجن بيتونيا، حيث اعتقلت كانت السلطة الفلسطينية “باسل” ورفاقه الخمسة في التاسع من نيسان الماضي (2016) بعد عشرة أيام من البحث عنهم، وأعلنت قوات الأمن أيضا في 30 آذار الفائت، مدعية أنها ستحقق معهم كإجراء اعتيادي ومن ثم إطلاق سراحهم وإعادتهم إلى أهاليهم، إلا أن ما حصل هو العكس إذ تعرض “باسل” ومن معه لتعذيب قاسٍ خلال أربعة أشهر في زنزانة انفرادية منع عنه الزيارة وإدخال الكتب أو الدواء.

وبالرغم من مرضه وضعف جسده، كان يعاني من حصوة في الكلى ومرض السكري، أصر “باسل” على الإضراب عن الطعام احتجاجاً على مواصلة احتجازهم، وتمديد اعتقالهم بشكل مستمر دون تقديم أي تفسير حول اعتقالهم، وبالفعل استطاعوا إجبار الأجهزة الأمنية على إطلاق سراحهم بعد ثمانية أيام، ومنذ ذلك الحين تحول “باسل” لمطارد.

وبعد إطلاق سراحهم حاولت قوات الاحتلال اعتقاله أكثر من مرة، حيث اقتحامات منزله في الولجة عدة مرات بشكل شبه يومي، وهددت عائلته وسحبت تصريح العمل من والده، إلا أنه رفض تسليم نفسه طوال هذه الفترة.

من أبرز الفعاليات التي سطع فيها نجم الأعرج، المظاهرات الاحتجاجية على زيارة كانت مقررة لوزير الأمن الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز خلال عام 2012 إلى الضفة، وتعرض للضرب آنذاك على يد أمن السلطة.

وكان قد شرع خلال السنوات الثلاث الماضية في مشروع «توثيق محطات الثورة الفلسطينية» منذ ثورة عام 1936 وصولاً إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، وأطلق لهذا الغرض رحلات ميدانية استهدفت زيارة المناطق التي وقعت فيها العمليات والمعارك الفدائية، مثل: موقع عملية زقاق الموت التي نفذها ثلاثة مقاومين من «حركة الجهاد الإسلامي» في الخليل عام 2002، ومعركة الولجة في بيت لحم، ونموذج ريف جنين في جدوى المقاومة، وغيرها.

في موازاة ذلك، حرص الأعرج على تنظيم ندوات تثقيفية في عدد من محافظات الضفة، كما نشط في «دائرة سليمان الحلبي» التي كانت تنظم محاضرات وطنية وتاريخية، وتناقش مواضيع تخص الفكر المقاوم. وكان يحرص على أن يكتب باستمرار في عدة مواقع فلسطينية عدداً من المقالات المتنوعة، التي تتمحور حول مواجهة الاحتلال وأمن المقاوم، ومن بينها مقالة تعكس شخصيته المثقفة كباحث ومؤرخٍ، عنوَنها بـ«عش نيصاً… وقاتل كالبرغوث».

والد الشهيد وصف مرحلة مطاردة نجله بالصعبة على العائلة، متحدثاً عن اقتحامات العدو المتكررة لمنازل معظم أقربائه خلال البحث عنه. موضحا أنهم توقعوا استشهاد باسل منذ تهديد مخابرات الاحتلال بتصفيته وبردّ قاسٍ إذا لم يُسَلّم نفسه، فيما قال شقيقه سعيد عنه: «اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً… لم تسلم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم».

الشقة التي استشهد فيها باسل كان قد استأجرها منتحلاً شخصية سائح أجنبي، ومكث فيها منذ نحو شهرين ونصف حتى استشهاده، وخلال الاقتحام كان قد تحصّن في سدّة الشقة داخل مساحة ضيقة فوق الحمام عند محاصرة الوحدة الخاصة مكان وجوده، فيما قال شهود عيان إن مئات الطلقات النارية والشظايا خلّفها الاشتباك، وعُثر على آثارها في معظم المنزل، إلى جانب حذاء وكوفية وكتب من مقتنيات الشهيد.

كذلك، أفاد الشهود بأن جنود الاحتلال قاموا بسحل جثمان الشهيد، إذ جرّه الجنود من قدميه خارج المنزل، ثم احتجزوا جثمانه ونقلوه في إحدى المركبات العسكرية نحو منطقة «عوفر».

«اغتالوا منظراً ومفكراً لطالما كتب عن “القتال الفردي” كبديل عن غياب الانتفاضات الجماعية.. اغتالوا “باحثاً محاربا” كان بالإمكان أن يكون من أوائل الأكاديميين الفلسطينيين في هذا التخصص.. اغتالوا أول منفذ لفكرة “الاختفاء” و”المقاومة الفطرية”.. اغتالوا معارضا شريفا، ذاق الكف والجرح والاعتقال السياسي، ولم يخوّن أو يهن أو يزايد على أحد.. اغتالوا مقتحم متجر رامي ليفي الاستيطاني وجندي المسيرات والتظاهرات الملتزم.. اغتالوا محرضاً ومحركا ومحورا شبابيا ضاقت كل الفصائل عن استقطابه.. اغتالوا اسما ما زال صغيرا على الدم والفكر السياسي والبحث والثورة.. رحمة الله عليك يا باسل الأعرج» هكذا نعاه أصدقاؤه الذي عرفوه حق المعرفة.

رحل باسل تاركا وصيته مكان استشهاده، عثر عيها مكتوبة بخط يده بين دفاتره وكتبه وكوفيته… وهذا ما جاء فيها:

«تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد ..

إن كنت تقرا هذا فهذا يعني أني قد مِت، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء. لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.

وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله».