مساحة حرة

شكة “البت”

في العديد من قرى الساحل السوري، المشهورة بزراعة التبغ، تُعرف شكّة “البت” الصبية من الشاب، “شكّ ورق التبغ بواسطة المّسلة، قبل أن يصار إلى جعلها معلقة في الخيط الذي ستجف متدلية منه كفراشات نائمة بصحبة الربّ” وذلك حسب الأثر الذي يتركه كل منهما على ورقة التبغ “الدخان” الرقيقة بطبعها، فشكة الشاب تترك في ورقة التبغ ثلما صغيرا جدا لا يُرى إلا من قبل العين الخبيرة، فوق نقطة دخول الرأس المستدق لمسلته في ورقة التبغ، أما شكة “البت” فهي لا تترك أي أثر، وغالبا طعنتها طعنة رشيقة، لا تمانع حتى تلك الورقة الرقيقة أن تتلقاها في دقيق عنقها، وكلمة “البت” التي لا تزال تلفظ في تلك القرى، هي فينيقية الأصل ومعناها “البنت”.
على امتداد النظر كانت حقول التبغ، -الذي يعتبر من الزراعات الاستراتيجية-، ممتدة حيث وليتم وجوهكم فوق هاتيك الربا والسفوح، وحباله المعلقة إما في مناشر مصنوعة يدويا من جذوع الأشجار الممتلئة، أو بين أغصان شجرتي زيتون تبدوان وخيط التبغ ممدود بينهما وكأنهما تتصافحان.
حبال تبغ تتمايل مع النسيم بينما أشعة الشمس المتغلغلة بين أنسجة الأوراق تحيلها من بشرة شابة فتية، على بشرة عجوز مجعدة، مكتظة بالخير.
الظهور المحنية إما لقطف هذه الورقة بعناية بالغة مع الندى على وجهها قبل بزوغ الفجر، وإما لشتلها وسقايتها والعناية بها، كانت تُرى للعابر في المنطقة على مدّ النظر، شبان وصبايا فتيان وكهول، كله يعمل، فهذه هي عائلة الفلاح السوري، الحلقة الأهم في السلسة الاجتماعية، لكن الحال لم يعد كما كان عليه قبل سنون عدة، بدأتها هذه الحرب العتية التي نخوض ولمّ تنهها بعد، الآن معظم تلك الربا نبت فيها العشب الطويل، عشب غطى ليمونها وتبغها وحتى شواهد قبور الشهداء، الذين يرقدون تحت أشجارهم، مطمئنون أنهم قدموا ما يجب لتبقى الحياة تتنفس الحياة، وليبقى زخمها وعجلتها دائرة، هذا العشب الذي كاد يصل حتى إلى الأرواح ليعربش عليها، سببه الإهمال، فالكثير من أبناء تلك المناطق، ذهب إلى الحرب، ومنذ ست سنوات، خفت اليد العاملة في الحقول، وبدأت الأراضي التي كانت تنتج الذهب الأخضر، بالتراجع تحت وطأة زحف الإهمال وأعشابه عليها، حتى أنه طال جدران الوحدات الإرشادية الزراعية، التي تبدو وكأنها في غيبوبة عن هذا المشهد الكارثي وفصوله الأخذة بالتدهور.
إنه الفلاح، عماد البلاد، وحارس الأمان الغذائي بل وصانعه في أي تجمع بشري، سواء كان منظما له شكل وكيان، أو كما كان منذ آلاف السنين، عملا يجري نقل تفاصيله في ال ” د.ن.ا” البشرية، عملا يعود بالخير على الجميع، إنها عائلته “أبناءه وأبناء أبناءه” هم من حمل هذا المشعل المنير منذ قدم الزمان، ومن الكبائر فعلا أن يصبح هذا الفلاح وأسرته بما يرمزان له، مهملا هكذا، هو وأرضه.
أما بالنسبة إلى ذلك الفرق الدقيق جدا والغير مرئي بين “شكة” البت وشكة الشاب، فهو بدوره أيضا، صار من الذكريات، لكن هذا لا يعني أنه ليس فارقا مهما يدل بتفاصيله في حال ذهبنا للخوض فيها، على طبيعة الحياة نفسها حال، ولن تكون بداية مراجعتنا لهذا الأثر ونتائجه الناجمة عن هذا الفرق الدقيق بين صانعته أو صانعه، لن تكون فقط عند كاهنة المعبد التي روضت الروح البرية لـ “أنكيدو”، ولن تقف مستقبلا أيضا عند كل سر دقيق للحياة، تحفظ الأيام فعاله، وسيكون للغد كلمة الفصل فيه.
تمّام علي بركات