مساحة حرة

إلى بادية الشام

ليست “جبهة منسية”، بل هي الهدف الحاضر أبداً في الأذهان، والميدان الذي تتكثّف فيه الاستراتيجيات الأمريكية في الشرق الأوسط منذ بدء ما أسمي حملة “تحرير العراق” 2003، وسقوط بغداد، و”اجتثاث البعث” في العراق، والهدف الذي يندرج أيضاً في صلب مشروع الفتنة الطائفية، الذي كانت خططت له السعودية منذ ذلك الوقت، وانطلق مع اغتيال الحريري في شباط 2005، بإشراف من بندر، ربيب بوش الابن وسفير مملكة آل سعود في واشنطن آنذاك، ورئيس جهاز الاستخبارات السعودية – فيما بعد – الذي أشرف شخصياً على مشروع “إسقاط النظام” في سورية انطلاقاً من العام 2011، وهو المشروع الذي رأت العائلة السعودية المالكة أن بوسعه احتواء التداعيات السياسية العكسية، والخارجة عن الحسابات، التي أعقبت سقوط صدام، والتي أوصلت لقيادة العراق نخبة حاكمة جديدة متعارضة تاريخياً وجذرياً مع الأيديولوجيا الوهابية المهيمنة في الرياض، رغم أنها كانت، على شاكلتها، صنيعة لقوات الاحتلال.

في ذلك الوقت، وبينما كان الأمريكيون يغرقون في أوحال الغزو، والسعوديون يستفيقون على “هول” قيام نظام مدعوم من الغرب لكنه أشد عداء لهم من صدام في العاصمة العراقية “المحرّرة من الاستبداد”، مارس الطرفان لعبة ماجنة من الهروب إلى الأمام: عملت واشنطن على ضرب المقاومة العراقية من خلال تشجيع عناصر من تنظيم القاعدة جرى استقدامهم من أفغانستان، وشرّعت لهم الحدود بين سورية والعراق لتجعل منها أرضاً خلاء، دون سلطة، خاصة بعد رفض “إنذارات” كولن باول في دمشق، فيما انكبت الرياض على تغذية مشروع إقامة كيانية طائفية حاجزة تمتد على كامل مساحة الأنبار العراقية وصولاً إلى عمق بادية بلاد الشام.. هكذا نشأت “داعش” التي ستتبنى المشروع نفسه، والتي ستأخذ على عاتقها مهمة تجسيده واقعاً سياسياً وجغرافياً تحت يافطة إلغاء حدود سايكس-بيكو، ولكن كـ “عدو!!” مُستحدث في مواجهة “الصليبية الأمريكية” و”الطواغيت من آل سلول”، عام 2014.

بعد أربعة عشر عاماً على إطلاق المشروع، لا تزال “الدويلة/ الحاجز” في صحراء الأنبار وبادية الشام مجرد فكرة افتراضية بانتظار توفّر بيئة استراتيجية مناسبة – لم ولن تتوفّر على الإطلاق- للانتقال من أوراق وأضابير الاستخبارات السعودية والأمريكية إلى واقع عملي مفترض على الأرض. يعمل الأمريكيون، دون جدوى، على استيعاب دروس فشل دعم الإرهاب في العراق، فيما يجرّب السعوديون تجاوز الرهانات الخاسرة من خلال الإمعان في المزيد من إثارة النعرات السياسية والطائفية هناك. كلاهما لم يعترفا حتى الآن بوحدة الشعب العراقي، ويناوران حيال مسألة وحدة الأراضي العراقية، وطبيعة الحكم والنظام السياسي في بغداد، وكلاهما يعتبر أن معركة فاصلة بانتظارهما اليوم على جانبي الحدود السورية العراقية، وأن عليهما أن يحققا ما عجزا عن تحقيقه على امتداد سنوات الحرب على سورية، بكل ما رافقها من محاولات تقويض للسلطة المركزية وتشجيع قيام كيانات وجيوب انفصالية تتوزّع خاصة على مختلف المناطق الحدودية. غير أن البيئة الاستراتيجية المنتظرة تبدّلت بالفعل، ولكن في غير ما يشتهي هؤلاء، وانقلبت “مؤامرة” الحدود المفتوحة حقاً ولكن لصالح قوى المقاومة، التي باتت تدرك وحدة المعركة في الاتجاهين. هكذا يتوجّه الجيش العربي السوري وقواه الرديفة والحليفة، وتتوجّه قوات الحشد الشعبي العراقي، على محور واحد، وبمسارين متعاكسين، ليلتقيان في ميدان معركة مشتركة لتحرير الحدود السورية العراقية من فلول الإرهاب.

ليست البادية السورية معركة منسيّة، بل قد تكون “أمّ المعارك” التي ستنهي سنوات من التدخل الأمريكي والخليجي المباشر وغير المباشر في الشرق الأوسط العربي. وعلى قدر ما يكتنفها من التعتيم والتشابك والتعقيد وتتناقض أجندات الأطراف المتواجدة على الأرض، تكتنفها، بالمقابل، الرهانات المستقبلية، والإصرار على الهدف، وقوة صراع الإرادات. فما أريد له أن يكون ذات يوم فاصلاً بين الشعب العربي في سورية والعراق يتحوّل، بوحدة المعاناة والاستهداف، إلى فرصة استثنائية لتلاقي أهم عاصمتين في التاريخ العربي، وأكثرهما تأثيراً سياسياً وحضارياً في الحداثة العربية المعاصرة. وليس ذلك بعيداً أو مستحيلاً، فالإدارة الأمريكية لا تملك غير التحرّك في حدود المناورة السياسية الضيّقة، واللعب، إلى أمد ما، على هامش اتفاق مناطق تخفيف التوتر، في إطار تجنبها للصدام. وطالما أن تجربة “الصحوات” سقطت غرب العراق، فهي مرشّحة لذلك حكماً في شرق سورية، خاصة وأن هذه التجربة، سيئة الصيت، كانت لقيت فشلاً ذريعاً ونهاية “مفجعة” في الشمال.

الحرب على سورية بدأت سياسية مع بدء احتلال العراق، واتخذت مضمونها الإرهابي التدميري التكفيري مع الصعود الوهابي لاقتياد “الربيع” إلى أحضان ممالك ومشيخات النفط بمشروعها لتقسيم المشرق العربي إلى كيانات طائفية توّجت بـ “دولة العراق الإسلامية”، ومن ثم “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”. وبذلك، لا يعني القضاء على مشروع الدولة/ الحاجز بين سورية والعراق إلا القضاء على الهيمنة السياسية للرجعية النفطية العربية التي تحكّمت بالقرار الرسمي العربي وبدعم أمريكي طوال سنوات الفراغ.

بسام هاشم