ثقافة وفن

“الأيقونة السورية”.. أثر الحضارات السورية في ملامح الفنّ الأيقوني وانتشاره العالمي

يقول البابا يوحنا بولس السادس في زيارته التاريخيّة إلى دمشق عام 2000 م : “من يريد الحقّ لا بدّ       أن يسلك طريق دمشق”. وقد بات من المعروف لكلّ شخصٍ مدرك للتاريخ ولحركة التطور البشري في كلّ مناحيها الإنسانيّة أن لهذه البقعة الجغرافيّة غزارتها في التكوين والأسبقيّة في خلق الإبداع، ووضع الأسس الحيّة والقواعد، التي ينطلق منها أهمّ الركائز الإبداعيّة،والباقية حيّة بين البشر، مهما مرّ عليها من القرون. ويروي كتاب “الأيقونة السوريّة” حكاية ولادة هذا الفنّ وحبوه الأوّل في نسيجٍ علميّ طرحته المؤلفة، أمينة متحف الخط العربي “إلهام عزيز محفوض” بطريقة البحث العلمي المُدجج بالدلائل، والشواهد، وآراء الباحثين، وذلك في 223 صفحة من القطع المتوسط، من منشورات الهيئة العامة السوريّة للكتاب في دمشق 2017.

يعترف الجميع اليوم ويعلم؛ بأن سورية هي مهد المسيحيّة، فمن القدس كانت ولادتها ومن دمشق كان انتشارها للأصقاع، وهذا ما كان أحد المقدمات التي اعتمدها الكتاب ليطرح بصورة موازية لهذه الحقائق التاريخيّة في كيفيّة ولادة فنّ الرسم على الأيقونات، وكيفيّة نموه بين قبولٍ مبدئي له في سنوات، ثم رفضٍ قطعي في سنوات أخرى، أو تحريم وتجريم، وممارسة له في الخفاء، وتحت الأرض في دياسيمٍ بعيدة عن الضوء، إلى اعترافٍ به من جديد وانطلاق وانتشارٍ عالمي، ليكون مع مرور الوقت حالة فنيّة وروحيّة تعبّر عن أحد ركائز الفنّ السوري بوجهٍ خاصّ والمسيحي بوجهٍ عام.

تبحث المؤلفة في النشأة والتطور لهذا الفنّ، لتصل في بحثها إلى العلاقة المباشرة لفنّ التصوير والنحت للحضارات في كلّ من سورية والعراق ( الآراميّة والفينيقيّة والآشوريّة والبابليّة والتدمريّة ) والرموز المستقاة منها أساساً (السفينة والحمامة والسمكة والمرساة والطاووس وغيرها ) وعلاقتها وأثرها في الفنّ الأيقوني ولا سيّما فنّ النحت التدمري، وطريقة تكوين الوجوه، وإبراز العيون والنظرة والأنف وحركة اليد وغيرها. وخلال البحث نتعرف أيضاً على شخصيّات دمشقيّة مهمّة كان لها أثرها البارز في دفع الدعوة المسيحيّة لانتشارها، وفي نفس الوقت مدى اعتنائهم في المحافظة على جماليّة هذا الفنّ الخاصّ، ومن هؤلاء حنانيا الدمشقي وعلاقته ببولس الرسول وإنقاذه، ويوحنا الدمشقي، وغيرهما مع عدد من الفنانين والمدارس الفنيّة كما في انطاكية وحلب وحمص.

تقع في أحد فصول الكتاب مرحلة تاريخيّة مهمة عنوانها حرب الأيقونات. فيه المزيد من الشواهد التاريخيّة التي لازمت العصر الروماني حينها والتنازع بين الأساقفة، فمنهم من تشدّد في منع الأيقونة، واعتبارها حالة من التطرف، ليصل الحال إلى قبول أو رفض الأيقونة،وهو محوراً للصراع من مجمع أفسس سنة 431 م إلى مجمع القسطنطينية الثالث سنة 681 م إلى اجتماع سايلينتيوم سنة 730 م وما حققه الامبراطور قسطنطين الخامس فيما بعد عبر الاجتماعات التي دعا إليها وهدم وتحطيم للأيقونات والصور ومتابعة هذا العمل من قبل ليون الرابع، وصولاً إلى إيرين في العام 780 م والتي تعد الوصيّة على العرش، وصاحبة السلطة الفعليّة، وبسببها أعيد للأيقونة اعتبارها، فأبعدت من يعادي هذا الفنّ، وعززت من يناصره، ودعت لمجمع نيقيا 787 م. ومنه انطلق الفنّ الأيقوني من جديد بسلام وحريّة في الامبراطوريّة على اتساعها.

يضيء الكتاب في مراحل متعددة حول موقف الإسلام من الفن الأيقوني، ابتداء من محافظة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على أيقونة السيدة العذراء والسيد المسيح معلقة في الكعبة أثناء تحطيم الأصنام، ومروراً بوقوف كثير من فنانين ومعماريين إسلامين للبناء والرسم والعمل يداً بيد مع زملاء لهم مسيحيين وانتشار عدد من الأيقونات تحمل رمزي الهلال والصليب معاً. وفي موقع آخر من الكتاب وتحت عنوان أيقونات دمشق نتعرف على قصة أيقونة سيدة دمشق التي انتقلت إلى مالطا في أواخر القرن 15 وإيمان المالطيين بها وكيف عزوا انتصارهم في الحرب إلى قدسيّة هذه الأيقونية والتي ماتزال موجودة إلى يومنا. أيضاً أيقونة العذراء والأمين التي تعود للقرن 13 وموضوع سرقتها من معلولا واستبدالها بمزيفة من لبنان، وعدم إمكانية الجهات المسؤولة وملاحقتها لاسترجاعها.

يعرفنا الكتاب في مواقع عديدة على تفاصيل كثيرة ارتبطت بالأيقونة، ومنها الألوان الأولى التي استخدمت فيها، ودلالات الخلفيّة، والعيون، والأنف، والوجه، واتجاه الرأس، وتكثيف الحالة الروحية فيها، والأيقونة بين الفن واللاهوت، وكذلك في مسألة الألوان وتقنيّة الرسم، ووسائل المحافظة عليها، والتعريف حول طبيعة الأضرار التي تصيب الأيقونة، وكيفية ترميمها، ليكون هذا علماً منفصلاً متنامياً بنفسه مع مرور الوقت.

يحمل الكتاب المزيد من المعلومات القيّمة التي تهمّ كلّ باحث، وكل مهتم في هذا الشأن، ويعود الفضل في ولادة الكتاب لمؤلفته أمينة متحف الخط العربي في دمشق السيدة “إلهام عزيز محفوض” خبيرة ترميم رسوم وزخارف على الأخشاب، والحاصلة على شهادات خبرة من عدد من المتاحف والوكالات العالميّة (ألمانيا ، الدانمارك، فرانكفورت، اليابان) وقد صدر لها سابقاً كتابها في البيمارستانات في دمشق وعدد من المقالات في الصحف والمجلات في سورية، إضافةً لمشاركتها في عدد من المؤتمرات العلميّة والثقافيّة.

البعث ميديا || دمشق – عامر فؤاد عامر