ثقافة وفن

تيارا الحداثة وبعد الحداثة

نعم نستطيع القول أن الحداثة وما بعد الحداثة مالِئتا الدنيا وشاغلتا الناس الآن، لكنْ مهلاً هلاّ توقَّفنا ملِيّاً عند المفردات والمصطلحات وترادُفاتِها قبل المضيّ بعيداً والإيغال في عمق المسألة؟ – هذا ما لم ولا تفعله حتى الآن لا الثقافة ولا اللغة العربيَّتان، لكأنَّ بدعة «كله عند العرب صابون» سارية المفعول هنا أيضاً: كلُّه عند العرب حداثة وقُضي الأمر. وكي أُضيء الأمر جيداً أُشير إلى خبرتي في مجالات وميادين أخرى ذات صلة ومفيدة هنا على مدى عقود مديدة ماضية في مسألتَي العولمة/ الكوكبة والمجتمع الصناعي وبعد الصناعي، فكرياً وثقافياً ولغوياً/ لسانياً ومصطلحياً، سأكتفي من هذه الجوانب كلِها حالياً بالمفاهيم

والمصطلحات. تأمَّلْ معي خلاصة جهود واجتهادات وابتكارات تعاملْتُ معها تأسيساً وتأصيلاً في المسألتين:

I– 1 – العولمة/ الكوكبة globalization؛؛ 2 – العولمي/ الكوكبي global؛ 3- مذهب العولمة/ الكوكبة (العولمية/ الكوكبية) globalism؛ 4- الحالة العولمية/ الكوكبية (أو الوضْع أو الظرف العولمي/ الكوكبي) globality….

I-II– 1التصنيع industrialization؛ 2- الصناعي industrial؛ 3- مذهب الصناعة والتصنيع (= الصناعويّة) industrialism؛ 4- الصناعة industry وبالمقابل:

II-II– 1 ما بَعد التصنيع postindustrialization؛ بعد الصناعي (أو ما بَعد الصناعي) post industrial؛ 3 – مذهب ما بَعد الصناعة (= بعد الصناعوية أوْ ما بعد الصناعوية) post industrialism؛4 – ما بعد الصناعة (أو بَعد الصناعة )postindustry.

وقياساً على ما سَبق أستطيع الآن، وربما بلا حاجة إلى إيضاحات خاصة أو شروحات إضافية تقديم ما يلزم في خصوص الحداثة وما بعدها…. مما هو مرْكزُ اشتغالِنا الحالي هنا والآن:

I-III– 1 – التحديث modernization؛ 2- الحديث modern؛ 3 – مذهب الحداثة والتحديث (= الحداثية أو الحداثوية) modernism؛ 4 – الحداثة (الحالة الحداثية أو الوضع أو الظرف الحداثي) modernity؛ وبالقياس إلى هذا ولكل ما سبق أيضاً نستخلص ما يهمنا من منظومة مفاهيم ومصطلحات ومفردات «ما بعد الحداثة….»:

II-IIII– 1 – ما بعد التحديث postmodernization؛ 2 – ما بعد الحديث postmodern؛ 3 – مذهب ما بَعد الحداثة (ما بعد الحداثية أو ما بعد الحداثوية) Postmodernism؛ 4 – ما بعد الحداثة (الحالة بعد الحداثية أو الوضع أو الظرف بعد الحداثي) postmodernity.

وهذه التمييزات وفصل المتشابهات أمر هام وأساس وضروري جداً فكرياً وثقافياً وأدبياً أيضاً.

في بدايات وأواسط الثمانينيات نضجتْ وتكثَّفتْ انتشاراً تمييزاتُ الحداثة وما بعد الحداثة وما إليهما من شقيقات ومشتقَّات، لذا كان لِزاماً علينا تصعيد الاهتمام بهذه المنصَّة.[*] – لحظة الإقلاع والانطلاق والإطلاق – على أوْسع نطاق؛ وأزعم أيضاً – استخلاصاً من تجربتي وخبرتي – أنَّ هذ قد حصل ايضاً وفي الفترة ذاتِها، – بإنضاجٍ وتكثيفٍ أكبرَ لِتراثٍ أغنى وأشمل وأقدم وأعرق، مع تمييزاتِ الصناعة وما بعد الصناعة، وببصماتٍ شديدةِ الوضوح ومتشابهةٍ في اجتهاداتٍ عديدة (منها مثلاً لدى نيْسْبيت وتوفّلر الأمريكيَّين) وللأسف فإن الربطْ وإرساء العلاقة – بالتالي اكتشاف التعالُق والترابُط – بين هاتين المسألتَين وهاتَين الظاهرتَين يغيب عالمياً، وكلِّياً تقريباً، وحتى الآن، بينما قمْنا نحن بذلك منذ عقدين على الأقل

أي منذ أواسط التسعينيات في دوريات عربية كثيرة، ولاسيما الفصلية والمحكمة منها، وأمثالها: الفكر العربي/ بيروت، التقدم العلمي/ الكويت، كتابات معاصرة/ بيروت، المعرفة/دمشق، وأمثالها نصفُ حولية التعريب/ دمشق وغيرها…. ثم في كتب مع مَفارِق الألْفية – قبْلَها وبَعدَها – أمثال كتب: النظرية الاجتماعية في عصر المعلومات (بيروت – دمشق: دار الأنوار) وَ المعلوماتية والمجتمع: مجتمع ما بعد الصناعة ومجتمع المعلومات (بيروت – الدار البيضاء: دار نشر المركز الثقافي العربي 2001)، وفي أماكن مبعثَرة مِن كتبٍ أخرى في الألفية الجديدة.

بعد التمهيد السابق الضروري والذي يصعب الاستغناء عنه أستطيع الانتقال إلى معالجة مسألة الحداثة وما بعد الحداثة – (كما يسود عربياً في التعبير والمفردات) – والتي هي فعلياً في العالم الخارجي الأصلي ليست كذلك، بل الذي يأخذ مكان الواجهة والصدارة في

الإصدارات والمناقشات الأكاديمية والبحوث والدراسات في الأغلب الأعم هو مذهبا الحداثة وما بعد الحداثة أي الحداثِية/ الحداثويَة، وما بَعد الحداثِية/ ما بعد الحداثَوية أيْ موديرنيزْم modernism وبوسْت موديرنيزْم postmodernism، والمصطلحان في هذه الصيغة الطاغية الغالِبة يعبِّران عن الفكر والاتجاه والعقيدة والمذهب كما سائِر لازمات إيْزم –ism الكثيرة جداً في اللغات الأوروبية جميعاً بجذورها الإغريقية – اللاتينية. والعرب قد يكونون ممن يستفردون بالتعبير الخاطئ عن هذه المسألة والظاهرة بتسمية الحداثة وما بعدها بدل مذهب الحداثة/ الحداثوية/ الحداثية وما بَعدها أي بتوصيفِهم ما هو بأسماء المذاهب والاتجاهات والمدارس الفكرية بعباراتٍ توصِّف الحدث والموضوع والواقع والظرف والوضع والحالة: الحداثة تُقابل modernity ولا يجوز أن تُقابل modernism وباعتبار الأخيرة وما بعدها هي التي تحضر وتُناقَش وتُعالَج وتُدرَس وتُبحَث أساساً، بل وهي التي تُتَرجَم وتُعرَض على النقْد العربي، فإن توصيفَها  بعبارات ومفردات وقوالب ومفاهيم ومصطلحات ليست بقياسها وليست لها فعلياً هو

خروج عن المنطق وتغريد خارج السِرب أصلاً والأنكى من ذلك كله أن تُترجَم الكلمتان المختلفتان أجنبياً في الأصل modernity وmodernism بكلمة عربية واحدة فقط هي كلمة الحداثة ظلْماً وبطشاً، مما جرى ويجري كثيراً في الواقع الفعلي [مثال ذلك سلسلة عالم المعرفة الكويتية ع301 لعام 2004، صفحات 141-158].

أمَّا لماذا لا يجري الربط وكشْف التعالُق بين ظواهر موضوعية ومسائل فكرية معرفية ثقافية متشابهةِ المَنابع والمواصفات والمسارات والظروف والحيثيَّات الزمكانية التاريخية المتناظرة. كالعولمة وما بعد الصناعة(….) وما بَعد الحداثة (….)….إلخ لماذا؟ – لأنَّ آفة الاختصاص الشديد والانغلاق الثقافي المعرفي أكلا الأخضر واليابس فغابت الرؤى وغابت التعميمات والكلِّيات والفهم التركيبي والمنهجيات والمنظورات المركَّبة والتركُّبية. فالعولمة أكثر ما تَهم السياسيين والاقتصاديين وأوْلي المشاغل الدولية الأممية – العلاقات الدولية:

الاقتصادية والسياسية والحقوقية القانونية والفكر المجتمعي الإجمالي الكلِّياني، بينما تهتم بمسائل ما بعد الصناعة(….) اختصاصاتٌ واختصاصيون في ميادين الاقتصاد وعلم العلم والفلسفة وعلم الاجتماع والاستشراق…؛ أمَّا ما بعد الحداثة (…) ففي مركز اهتمام علم الجمال وفلسفة الفن إضافة إلى النقد والنظرية النقدية ونظرية الأدب وسائر الشِعاب الإيستيتيكية الجمالية مع الفلسفة ككل وعلم الاجتماع – وتالياً الفلسفة الاجتماعية والدراسات الاجتماعية الفلسفية وما سمَّيناه سوسيوْفلسفة تحديداً – عدا علم النفس وما إلى ذلك… أما الأخطر والأكثر دلالةً وتأثيراً وانعكاساً على أرض الثقافة والحياة فعلياً فهو العزْلةُ المتبادلة بين هذه الاختصاصات ورِجالاتِها من فئة المثقفين والأدباء والنقاد والفلاسفة…إلخ أي عدم تعايشهم ولا تفاعلِهم، بل وجودهم في جُزر معزولة لا قنوات موصِلة بينها، ولولا متابعاتنا أدبياتِ ومرجعياتِ عددٍ كبير من العلوم المجتمعية – بالعشرات – مع دوريّاتِها العالمية المتخصصة ومنذ عشرات السنوات – تراكُميّاً – لما استطعنا بدورِنا مِنْ تكوين صورة بانورامية

هولوغرامية كلِّيانية تكاملية تركُّبية/ مركَّبة لِمجْرياتِ وحيثياتِ الحياة الثقافيةِ الأدبيةِ الفكريةِ… في عالَمِنا المعاصر، بل ولا حتى لِظاهرةِ وإشكاليةِ أي واحدةٍ منها بمفردها أيضاً: كالحداثة وما بعد الحداثة (….) التي قد يَظُنّ أيُّ أديب أو ناقد مُدْمِن على التخصص الدقيق مستغْرِق في ميدانه أنه موضوعٌ يخصّه وحده دون سواه، وكذلك قد يفعل الاستيتيكي الجمالي والفنان المغْرق في جماليات الفن (من ممثلي الفنون الجميلة التشكيلية – التعبيرية) … إلخ أما على أرض الواقع الثقافي المعرفيّ الفكري وعبر دوريات مجتمعية عديدة ومتنوِعة نجد أن مسألة ما بعد الحداثة – وقبلها ومعها الحداثة – (والحداثية وما بَعدها) تحْضران في دوريات «العلوم الفلسفية» و«الفلسفة وعلم الاجتماع» – [هنا ولاحقاً أضع الأهِلَّة للتأكيد على الطابع التوثيقي العنيد والأكيد «لِمزاعمي» هذه] – وَ «نظرية الأدب» و«اللسانيات/ علم اللغات» وغيرها من علوم إنسانية ومجتمعية كلّية وفرعية…

وفي أواسط الثمانينيّات المبكِّرة جرتْ عملياتُ رصدٍ مبكّرة واستقراءات واستشرافات تنبهتْ إلى ضرورةِ التفريق الحازم بين مرحلتَي الحداثة وما بعد الحداثة، وحدَسَتْ أيضاً نضوجَ المرحلة للحزم والقطع في الطابع الانتقالي مِن «مذهب الحداثة»/ الحداثوية/ الحداثية إلى ما بَعْدَها فكرياً واتجاهاً عقائدياً ثقافياً، ومنهم مَن أرهص التعبير عن ذلك حتى في المفهوم والمصطلح قبل أن يبتّ بالاعتراف بولادةٍ نهائية مكتملة وموصوفة «لِمذهب ما بعد الحداثة»/ بعد الحداثية/ أو ما بعد الحداثوية، فارتأى التعبيرَ عن ذلك بدلاً من مصطلح modernism– موديرنيزْم، السائد والمنتشر كفايةً ذلك الحين في كلّ مكان، بمصطلحٍ قد نُسمِّيه انتقالياً هو: كونتر موديرنيزْم Counter-modernism– الحداثية (أو الحداثوية) المضادَّة -، وهذا ما فعله المختص بنظرية الأدب جيّفي تيرْلي الإنكليزي، أي أنه تحدَّث عن ما يمكن تسميتُه الكونتر حداثية أو الكونترحداثوية، وعن ضرورة نشوءِ ما سمَّاه «نظرية أدب كونترحداثية/ كونترحداثوية» (أي حداثية/ حداثوية مضادّة)، كما استرسل في بيان ورصْد ثلاث اتجاهات

أساسة في «الحداثية/ الحداثوية النقْدية»…. وفي توصيف «الطليعية/ الريادة الحداثية»، وفي الحديث عن ما يُشبه فرعاً نظرياً أساسياً أو تأسيسيَّاً في مجالِه هذا باستخدامِه مصطلح «الكونتر حداثية النظرية» (≈ الحداثية الضِّديِّة النظرية). [1].

وأعتقد أن كلَّ هذا الذي ذُكِر تعبيرٌ موفَّق واجتهادٌ مُقارِب لتوصيف نضوج مرحلة الانتقال المتبلْور والحاسم إلى عالَم جديد – عالَم ما بعد الحداثيّة / ما بَعد الحداثويّة – أي إلى عالَم ما بَعد الحداثة (بالتوصيف العربي الأثير السائد والأسير لترجماتِنا اللغوية – الثقافية – الأدبية العجولة وشبْه المرتجَلة)، ولكنْ مع حسبان شقيقات ومشتقّات ما بَعد الحداثة هذه، الطاغية عندنا عربياً وشبْه المتفردة والمستفْرِدة حضوراً في ثقافتِنا وأدبيَّاتنا.

[*] المنصة والمنصّات انتشرت خلال الأسابيع القليلة الأخيرة أوْ ربما «بُعَيض» الشهرين الماضيين فقط بعد عدمٍ صريح أو أكثر من غياب كليّ (ثقافياً) لكنني استطعتُ توثيق المفردة في استخداماتي تنصيصاً واستباقاً – كالعادة وكما في مئات حالاتٍ أُخرى مشابهة – منذ عام 2012/2013 في كتابي المنشور بعنوان «مِن دفاتر الستينيات….» في مقدمتي… للكتاب ص9 حيث ورد التالي: «اهتموا من فضلكم بتاريخ التسجيل كمنصّةٍ وزمِن قياس لرصد المجرَيات

والحصائل التالية (دمشق 23/4/2012)» وطبعاً قبل خمسْ سنوات مِن «منصات» القاهرة والرياض وموسكو وغيرها حالياً.

1  –  THURLEY G. Counter – modernism in current Critical theory. – London, Baringstoke: Macmillan, 1983-261p.

الحداثِية الضدِّية (أو المضادّة) في النظرية النقدية الراهنة…. أيضاً في مجلة مراجعات «نظرية الأدب»، العدد 6 لِعام 1985 [85.06.002].

البعث ميديا || الدكتور معن النقري