ثقافة وفن

نحن ومابعد بعد حداثويات العقل والمعلومات والملكية الفكرية

ومِنْ نصوصِنا الناطقة بحداثويةٍ بَعد حداثية غير مطروقة عادةً وعلى غير وأكثر من صعيد ما تناولنا فيه قضايا المعارف والمعلومات والثقافة والفن والنشاط العقلي الذهني الفكْري بإجمال، بل ومن منظور شديد الخصوصية هو الحماية والرعاية – حماية حقوق التأليف والنتاج الذهني العقلي والفكر ككل، وأجد ما بعد الحداثية هذه حتى في عنوان النصّ: «ظواهر «لا تقبض» عليها مؤسَّسات حماية الفكر» وذلك ضمن مقال عنوانه «حقوق الفكر وحماية الملْكية الفكرية» (مجلة الروّاد، دمشق، ع3، شباط 1996 ص7)[5]. ومِن خلاصة النص أنَّ: «مساحات شاسعة من النشاط الذهني والإبداعي البشري تظل عرضة لِما يُعرف بالسطو أو السرقة أو الاستخدام بغير إرادة صاحبها الأصلي أو بغير الطريقة التي يريدها والاتجاه الذي يرغبه وتظل ظواهر كثيرة هنا عصيةً على التشريعات التقليدية المألوفة… ويكون الحديث عن أية مستويات تشريعية مرموقة ومتقدمة ضرباً من الخيال والسِحر والتنْجيم في عالم تنظيم وضبط الظواهر الإبداعية الجديدة والمتجددة على الدوام…».

إنني ألْفِت الانتباه إلى أن نصاً كهذا يُضفي أبعاداً جديدة ومبتكرة (مع ما سيليه على أفكار «موت المؤلِّف» ونهايات النص …إلخ مما قد لن يكون قد خطر على بال مروّجي وروّاد هذه الأفكار ذواتِهم من بارت إلى دريدا وأمثالِهم من أعلام ما بعد الحداثة (أوْ ما بعد الحداثية حسب تدقيقِنا للمصطلح).

وهاك إيضاحات و«بيانات» إضافية وضافية مِن تصوراتِنا حول هذه المسألة ومِن المقال الموثَّق المذكور آنفاً لنا مِن بداية عام 1996 ذاتِه: «إن الثورة العلمية
والتكنولوجية وكذلك مراحلها الجديدة الموسومة بثورة الاتصالات والإعلاميات تزيد من تأثير وريادة العلوم والمعارف والمعلومات في تشكيل الحياة الاجتماعية وتوجيه وتحديد مسارات التنمية، وليس هذه فحسب (العلوم والمعارف والمعلومات) بل والثقافة إجمالاً والفن، أو ما يُسمّى غالباً بالعوامل النظرية والإيديولوجية… إنّ الثورات التكنولوجية المعرفية باتت قادرة على تحويل سائر نِتاجات الإبداع الذهني إلى منتجات بضاعية ومنتجات قابلة للاتجار والتطبيق، وتقلَّصت الفجوة الزمنية إلى ما يقرب من الصِفر بين الفكر والعمل، بين الفكرة والممارسة والإجراء فحدَثَ ما يشبه الاندغام الزمني بين اللحظتَين، والثورة المعرفية المعاصرة بتقنياتها المعلوماتية الاتصالية هي على أبواب اقتحام كيفيات ووسائل وأساليب الإبداع الذهني، وليس المنتجات الذهنية فقط، وأسرار تحصيل الخبرة والتجارب، وليس مضمونها فقط… إن التوجُّه العامّ في العالم يُنبئ بتزايد واتساع ساحاتِ النشاط البشري ممكنةِ الاستثمار اقتصادياً وتطبيقياً بوجهٍ عام حالياً، أكثر مما يعني مجرد تزايد الطابع «البضاعي» أو «الاستهلاكي» لهذا العالم بالمعاني المألوفة سابقاً». – انتهى.

وإذا أوْغلْت حثيثاً في هذا العالم السورْيالي مِن واقع ما بَعد الحداثة باستخدام المقولة الأعم والأشمل ببعْدها الأوْنطولوجي الوجودي والتي هي المعلومات مفهومةً فلسفياً بالعمق العلْمي – العام، والمعرفي – العامّ، فستحصل على تساؤلات ولمحات توثيقية مفيدة في هذا الحقل استمراراً لما سبق: في مقال «المعلومات بلا حماية ولا مؤسَّسات» (مجلة الروّاد الشهرية، دمشق، ع8، آب، أيلول، ت1 (كما الفصلية!) 1996). يبدأ الكلام كما يلي: هل نحن أحرار في اصطياد المعلومات؟ أَم أن المعلومات هي الأكثر حريةً في اصطيادِنا؟ وهل نتمكن من حجز وحجب المعلومات عن مُغادَرتِنا حسب هوانا ورغباتِنا أَم أنها هي التي تنطلق وتغادرنا متى تشاء وحيثما تشاء وكيفما تشاء؟ ما هو موقع وموقف الإنسان مِن «تيَّار المعْلومات»؟ – على هذه الأسئلة يجدر بنا عدم التسرُّع في الإجابة لأن بعض التأمّل والإيغال في تجارِبنا قد يهدينا إلى إجابات ربما لا نتوقَّعها! هذا على الصعيد الشخصي – النفسي والذهني الداخلي بوجهٍ عام (المينْتالي –mental)؛ … وعلى المستوى الاجتماعي.. يجد المواطن نفسه في نهاية المطاف أسيرَ ردود فعل ومنعكسات لا يستطيع أن يتحكّم بها أوْ يشارك في تقديرها سلفاً، ويكتشف أنه وسط تيار من المعلومات يؤثّر على حياتِه وخصوصياتِه يومياً من حيث يدري ولا يدري؛ … وعلى المستوى الدولي هل نعتبر شعوب العالم النامي حرةً في استقبال وقولبة وهضمْ واستثمار المعلومات التي يغلب عليها طابع المصادر الخارجية، أم أنَّ التدفّق الحرّ للمعلومات منَ «العالم الحرّ» هو الأكثر حريةً في قولبة هذه الشعوب والتلاعُب بأفكارها وأمزجتِها وهواياتها وآرائِها العامّة؟ والتدفّق الدولي للمعلومات… أمر لا مفرّ منه في عالم يزداد ترابطاً وتشابكاً، وتزداد فيه ظاهرة العولمة أو الكوكبة في سائر المجالات المختلفة…. [وكما سبق ونوَّهْت فإن هذا النص الذي كرَّس وتابع تدْشين هذين المصطلحين المؤسِّسَين من عام 1995 على الأقل، وما قبل ذلك لدينا، يُواكب بداياتِ حضور مصطلح العولمة عربياً عام 1996، سيما وأنه نصّ مكتوب عام 1996 كما هو موثَّق هنا].

وفي مجالاتٍ رديفة لما سبق ثمة مقالات توثيقية أُخرى أيضاً منها:

مقال «المعلوماتية والإنسان» (أسبوعية «الأسبوع الأدبي» (الاتحادية)، دمشق، ع542، 21/12/1996، ص5)[6] وفيه التساؤل المحوري: ماذا عن مستقبل المعلوماتية في صلتِها بالإنسان وأفكاره وأحاسيسه وقيمِه ووعْيه إجمالاً؟ وفي سياق الإجابة وتأسيساً على ثلاثة توجهات تِقَانيّة شديدة الحداثة جرى طَرْح وتأسيس مفهوم البيوْماتيك بالمعنى المتضمِّن تركيبَ الاتجاهات الثلاثة بالوصل الشبكي المتداخل معلومياً بين النظم البيولوجية والنظم الآلية، أي أنه «بيولوجي – آلي – معلومي»  أو «بيو – آلي – معلومي».. أو «بيوماتيكي»، والتقانات الثلاثة المركَّبة المقصودة هي: التكنولوجيا «البيوسينْسورية» – أوْ «تكنولوجيا التحسُّس الإحيائي»، و«التيليْباتي» أو التخاطُر، وَ «التيليماتيك» أي المنظومة الآلية الموحَّدة والمندمجة لوسائط الاتصال الجماهيري الأكثر حداثةً أرضياً وفضائياً وشبكياً…

وإمعاناً في «بيانِ» واقعيةِ هذا الاتجاه المركَّب الجديد على الرغم من سوريْالِيَّتِه وحداثيَّتِهِ الفائقة (هايْبر مودرنْ) اِقرأْ معي هذه السطور التوثيقية مِن نهاية المقال المذكور:

«وتشير المكتَسَبات العلْمية والتكنولوجية والتطبيقية الحالية إلى منطقيةِ مفهومٍ أوْ مصطلحٍ أو علمٍ مِن هذا القبيل، وتُنبِئ عن وجود اتجاه «بيوماتيكي»» ممَّا سبق وصْفُه، وقد لن يكون هذا سبْقاً للأحداث والظواهر القائمة فعلاً أو للممارسات المتنامية، إذْ إنَّ إحدى ميزات وخصائص عصرنا الحالي أنَّ التطبيقات فيه باتتْ تسبق وعْيَها نظرياً أوْ تأطيرَها بصورةٍ علمية شموليةٍ في أحيان كثيرة».

 

5 – حقوق الفِكْر وحماية الملْكية الفكرية ؛ مجلة الروّاد، دمشق، ع3، شباط 1996، ص7.

6 – المعلوماتية والإنسان؛ الأسبوع الأدبي (الاتحادية)، دمشق، ع542، في 21/12/1996، ص5.5/3/2017

 

د.معن النقري