ثقافة وفن

النقد الفني عند مارون عبّود: الحقيقة والحقيقة فقط

مدارس كثيرة ظهرت منذ بداية ظهور الفنون، فقامت كل مدرسة بوضع شروطها التي تعني فيما تعنيه أن هذا فن وما دونه ليس إلا هراء، ومنذ العصر اليوناني الذي كان فيه لأرسطو الجولة الأعظم في هذا الشأن حتى مراحل لاحقة تصل إلى الآن، لا زالت تلك المدارس النقدية تظهر داعية إلى شجب هذا الفن مقابل تعويم فن يماثل مقولتها، إلا أن الداء الذي أصاب النقد العربي الفني، والذي خلا إلا قليلا من مدارس نقدية، صنعها الفن ذاته أولا قبل أن يصنعها نقاد بذاتهم، يُظهر لنا مدرسة كبيرة ومهمة وقاسية في مضامينها التي لا تعترف بالفن وفروعه، إلا إذا استحق فعلا هذا الوصف، هذه المدرسة الملحمية، خط فصولها الأديب والناقد الحصيف “مارون عبود”-1886-1962- الذي أكد في العديد من كتبه ومقالاته أن الأدب عند لا يستقيم إلا “بنقد لا هوادة فيه، وإن مهمة الناقد كمهمة الأثري ينبش القناطير المقنطرة من التراب ليعثر على تمثال أكله الصدأ” لا يقلّد أحدًا، قلمٌ من دمِ صاحبِه لا شرقيٌ ولا غربيّ، يردّ على طه حسين والرافعي وزكي مبارك كما يردّ على شوبنهور وغوته وهيجو، ولما أكثروا عليه بالاستشهاد بأدباء الغرب في آراء أدبية يخالفهم فيها قال:

“ما هؤلاء إلا متقدمون في الأخوّة في خدمة هيكل الأدب وسدنته، إن هم إلا بشر بل أفراد من نوابغ الأدب والفرد لا يؤلف أمة، والأمّة ولو كانت الشمسُ لا تغيب عنها، لا تؤلّف العالم!”

يلذّ لعبود النقد كثيرًا ولا يشبع منه، وهو يرى أن:

“النقد إعلان بلا أجرة، ولا أتلقى منه سوى السب والشتم وسواد الوجه، فالويل جزاءُ ناقدٍ في أمة لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء، ألم يقل أناتول فرانس: آه من النقد كم جعل لي من أعداء، فماذا نقول وأدباؤنا رِقاق الجلود؟ وأدبهم شوكولاهي ينماع إذا أحرّ النقد؟”

كاد نقدُه أن يعرّضه للضرب والقتل عدة مرات، وكان يتلقّى رسائل وعيد تحرمه النوم، بل غاظت إحدى مقالاته جماعةً من قومه فخرج له سبعون رجلا بالسلاح، وظل في حماية أربعة من جنود الحكومة حتى انحلت المشكلة، و تلقى الكثير من رسائل السب والشتم على نقده المرّ، ووُصف بـ ذا الذنب الأعقف وصاحب الأذن الطويلة وكان يسمّي هذه الشتائم التي ما تنفكّ تنهال عليه بأنها (الأسماء الحسنى) وعتب عليه بعض أصدقاءه وقال له: لقد قضيتَ على كل من كتب أو نشر، فارفُق بالكتاب والأدباء واستبقِ بعضهم كي لا تكون وحدك في الميدان وجلبا للسلامة منهم، فأجابه:

“إني في السلامة على مذهب الطغرائي، ولا أريد للأدب أن يصبح لعبة يتلهى بها من يفرقعون أصابعهم ويتوهمون أنهم قذفوا قنابل تنسف الأرض فتخرج أثقالها، ثم يعجبون كيف لا يقول الناس: مالها!”

لم يمنعه كل هذا من المُضيّ لما كرّس حياته له، فقد أخذ على نفسه القسَم “أنا مارون عبود أقسمت وأقسم بحياة مارون عبود أعز الناس عندي ألا أكتب في باب النقد إلا ما أعتقدُه حقا، وإن أخطأت فأنا غير مسؤول.”

نقدُه قنطرة القبول ولا مجاملة في عبوره، ومن وقف عليه إما جازه بحق وإما سقط بلا أوبة، سقوطَ العقّاد عنده، وكانوا يهدونه الكتب والدواوين لينقدها، فلا يصانع أحدًا، وربما كتب عن تردده في نقد مادح له ولكنه يعود فينقده بلا مجاملة ولا رحمة، إذ “يجدّ في نقد المبتدئ إذا رجى منه خيرًا وشعرا، وإذا غلِط الكبار وجبَ أن يكونوا عِبرة للطريّ عُودُهم” وهو كفيلٌ بذلك، ولكنّ هذه الصراحة والحِدّة الساخرة لا تمرُّ بلا ثمن، وقد دفع مارون هذا الثمن راضيًا أو شبه راضٍ، من صداقاته وعلاقته مع أحبابه وسِبابٍ وشتائم كان يتلقّاها باستمرار، ولا عجب؛ “فقديمًا ما كان النقد مفرّق الأحباب”، ولكنه لا يبالي بذلك و لم يراعِ مرةً الصداقة في نقده الشعرَ والكُتب، “فالصداقة تزول والحقيقة تبقى للأبد” وما أصدق هذا وأعزّه اليوم.

كان مرة في مؤتمر تحدث الملقي فيه عن النقد الأدبي وقال: إن النقد أفقد مارون ثلاثة أرباع أصدقاءه، فالتفت أمين نخلة إلى مارون وأشار بسبابته إلى صدره كمن يقول: أنا آخر واحد!.

كان يُسأل بعد كل فصل: “ماذا بينك وبين فلان؟ وإذا لم يكن ثمة شيء بينك وبينه، فلماذا كل هذا النقد المرّ؟ حقًا إن الناقد مسكين! إذا قرّظ أو أثنى قالوا: له غرض ومدلس ومحاب، وإذا قسا وشرّح قالوا: حسود قاس شرس، وإن تهكم بأدب يضحك الثكلى قالوا: وقح لا يحترم شعور البشر! مالي ولهم؟ أَكُلُّ هبنّقة يريد أن نجعل منه أبا الطيب؟ ماذا نعمل لنرضي الناس؟! لا أدري!.

والحق أقول لك: ليس لي في الأدب حبيب أعطف عليه، ولا صديق ولا خليل في المختبر والنقد، وإني ألجأ للفصد متى رأيت الضغط عاليًا، وإلى الكيّ إن كان آخر الدواء، وإنني أتوخى تبيين العيوب لأنقذ أصحابي من شرها.”

إنه لا يبحث عن تبرير لهذه الحدّة النقدية، ولا يعتذر منها لأحد، إنها طبعه؛

“إن شيئا فينا يحثنا ويدفعنا إلى معاداة الناس عداء لا نفيد منه إلا السباب واللعنات والقداسات لأمنا وأبينا، وهذه العلقمية والعقربية والنصال والنضال لا يد لي فيها، أرأيت (أيّ) التي أعجز تعليلها ذاك النحوي فقال: أيّ كذا خُلِقَت، الحق أقول لك: مارون كذا خُلقْ!”

يكره تقديم الكتب لأيٍ كان، “لأن فيها احتقارًا لذوق القرّاء الفنّي، وهذه التقاريظ مثل صياح الباعة على البضاعة، ولا يبطل زعمهَم إلا نار المطبخ والنقد” واليوم يُخبرك المقرّظ أن هذا الكتاب الذي يقرّظه يسُد ثغرة في المكتبة العربية، وما درى أنه لو وُضع الكتابُ ومؤلّفه ومقدِّمُّه معًا ما سدّوا ثغرةً في جدار، ولكنه زيف المعرفة والمصانعة.

يحتدُّ في نقده ساخرًا سخرية غير فجة ولا مسفّة، ولكنه يجعلك تضحك من قلبك، وإذا أحرّ النقد تبيّنتَ دقة ملحظه ورهافة حسّه، وسعة معرفته بالأدب العربي والغربي، وغيرته على الأدب وإخلاصه للفن، وعدم تقديسه للكبار أبدًا.

هو لا ينقد الأدب إلا بمثله، فنقدُهُ أدبٌ بحاله، أسلوبًا وروحًا وتشبيهاتٍ ووصفًا “فلا يعنيه من الزهرة إلا جمالها وعطرها، أما العلم الذي يحلل عناصر جذورها والجذع والورق والألياف فلا يلتجئ إليه لئلا يفسد عليه النشوة التي دبت فيه حين وقعت عينه على عينها”

متماسك الشخصية صلب الإقدام لا يحرِن ولا تقلص شفتاه عن وضح الفمِ في أي معركة يخوضها، لا يليّنُه هجوم المنتقَدين عليه، ولا يثنيه العتب ولا يستميله المدح، لا يقدس أحدًا ولا يبالي بعظيم وشهير، ومهما مدح الناسُ كتابًا فهو لا يبالي بذلك “فأثر الهرّاجين في الناس ابن يومه ومنذ متى والفن يقوّم باستحسان الجمهور له؟”

لم يكد يسلم منه أحد، وما نقد أحدًا دون أن يمعط إذنه أو يفركها قليلًا، اللهم إلا عمر أبو ريشة فكان نقده له أخف ما نقد، وعوتب في ذلك، ولكنه لم يغير رأيه لإعجابه بشعره غاية الإعجاب، أما نقده لطه حسين، عباس العقاد، بشارة الخوري، سعيد عقل، الزيات، الرافعي، حافظ، شوقي وغيرهم، فأمَرّ من الصِّبر وأحرّ من الجمر وأكثر إضحاكًا من نكتة على السجيّة، ويمدحهم فيما استحقوا، غير هيّاب ولا متراجع عمّا يقوله.

 

وحين نقد أدباء مصر في كتابه (في المختبر)

“أغضب عبّاد الأصنام من أجل توحيد الأدب فانهالت عليه الرسائل سوداء وحمراء ممن يفكرون بعقول جيرانهم! ونصحوه أن يتناول غير مشيخة أدباء مصر الموقر، فيَـدُهُ أقصر من أن تنال الثريا، فضرب على هذه العطعطة ومضى، يعزيه إخلاص المنصفين وراحة ضميره”.

وإنّ مطالعة نقده في بحر كتبه خيرُ مران وتثقيف لحاسة الذوق والنقد ووزن الأدب وتقييمه، وأنا زعيمٌ لك -ولو أن هذه العبارة لا تعجب مارون ويراها مما أحياه طه حسين من الموتى ولعله فاته الحديث- أن قراءتك له ستحدّ من رمح قلمك ورهافة حسك، وبصرِك بجيّد الأدب ورديئه، إن كان طبعك مؤاتيًا.

ولعلي لا أثقل عليك إن بسطتُّ لك طرفًا من نقدات مارون عبود لأدباء عصره وتقييمه لهم في مقالات قادمة، ورؤيته للأدب والأديب والصِّنعة الأدبية، وأمُرّ بك في كل ذلك مِشيةَ حبيبة الأعشى .. لا ريثٌ ولا عجَلُ .. سأعبرُ بك مضيقًا قصيرًا وعليّ نجاتك، فاتَّـكِئ لكن لا تنمْ.

إعداد: تمّام علي بركات