ثقافة وفن

تجربتي مع الميزوْ اختصاصية التركبية في كتاب اللسانيات والعربية عام 1977

يجدر التذكير مجدَّداً وتكراراً أنَّ كلمة ميزو في تركيبة ميزو/بوتاميا تعني بين، لأن التركيبة هي بين النهرَين أو الرافدَين بأكثر اللغات الأجنبية الأوروبية، ويبدو أن كلمة ميزو هذه صارت في الروسية ميجْدو=بَين أيضاً، والتي تحضر دائماً معنا هنا في تسمية بَين الاختصاصية ـ Meχ/DucyunΛuHapH. ميْجْـ/ديْسصيبْلينارنْ: حيث أن اللاصقة/اللازمة ميجْـ هنا هي اختصارٌ وَصْليّ لكلمة ميْجدو، والتي أظنها ميزوْ، كما أَعتقد وأَفترض، لذا لا غرابة في احتمال استخدامِنا لاحقاً تعبيراً مِنْ وَضْعِنا هو ميزو/ديْسْصيبْلينارنْ. أو في صيغة تعريبية وسطية: ميْزو ـ اختصاصية بذات دلالة مركَّب بَين ـ اختصاصية حين يقتضي التوضيح إشارةً للأصْل الروسي للتَسمية بخاصَّة، ويمكن أن يتحول إلى مصطلح رافد إنكليزياً وروسياً Mezo disciplinary + MezoDucyunΛuHapH..

***

أعود إلى بعض تجربتي التكاملية التركُّبيةالميزو اختصاصية.

بعد كتابي الأول والمواد والخلاصات والمكثَّفات التي صارت مع تحليلها وتقويمها ونقْدها كتاباً ثانياً عن تلك الفترة هجمتْ فترة عصيبة من الانشغال والانهماك الدراسي الذي لا فِكاكَ منه، حتى لو كان شرّاً لا بد منه، فجاءت فترة البكالوريا ـ الثانوية العامة/ العلمية ـ لتحتاج إلى شبه تفرُّغ كامل عند الرغبة في مجموع علامات لائق، وحصل ذلك بدراسة شبْه عصامية أيضاً (فتضاعفت الجهود فعلياً) ثم جاءت فترة إيفاد هندسي في بعثة للمتفوقين لمدة ست سنوات أخرى احتاجت بدورها ما يشبه التفرغ، وكنتُ أتمزَّق من الداخل بحثاً عن فسحة وقت أو فرصة هاربة للبحث والكتابة والاشتغال بعملي الأصلي واهتمامي وبكتابة آرائي ورؤاي، ولم تأتِ هذه الفرصة وهذه الفسحة هاربةً من حكْم الزمن وقدريّات الدهر إلا في السنة الأخيرة من التخرُّج في الفصل الثاني الذي خصِّص لمشروع التخرج وللدفاع، وبدت فترة ما يقرب من نصف سنة مخصصة لذلك مع انتهاء الفصل الأول نهاية عام 1976 فالعطلة الشتوية فالفصل الثاني من بدايات عام 1977، فكانت الفرصة الوحيدة النادرة والأولى بعد سنواتٍ عجافٍ طِوال من التقيُّدات والتحديدات القهْرية القسْرية في الزمن. وهكذا تصرفْتُ حالاً: واقتطعت نصف الفترة المحدَّدة لِمشروعِ التخرج والدفاع، كي أمارس هوايتي ونشاطي الأصلي في التفكر والتأمل والمتابعات الفكرية والكتابة، وفي المحصلة أنجزْتُ كتاباً في الفكر اللغوي وشؤون العربية وجاء عنوانه التقريبي كما أتصور الآن ارتجالاً: نظرة في اللسانيات واللغة العربية. والعمل بأكمله هو من نمط الدراسات التكاملية المركَّبة لأنه غير مخصص لبنية أو تركيبة أو وظيفة جهاز اللغة العربية داخلياً، ولا هو متخصص لغوياً فقط بشؤون لسانية بحتة، بل بالعكس يتركَّز العمل على وضْع اللغة العربية المعاصر ـ وضْعها مع الجوار وفي العالَم الراهن ومصيرها وتفاعلها مع العلْم المتقدم المعاصر.. بمعنى أنني أساساً أمام مشكلة أو إشكالية كبرى بل وتاريخية، وليس أَمام رقم جديد في تعداد وقوائم الدراسات اللغوية، ومن هنا فأنت أمام اختصاصات عديدة دفعةً واحدة ـ أمام إشكالية ومشكلة بين اختصاصية ومتعددة الاختصاص: فقه اللغة واللسانيات ـ فقه العربية تحديداً ـ فلسفة اللغة ـ سوسيولوجيا اللغة واجتماعياتها ـ قضايا تاريخية فرعية تخصصية ـ قضايا منهجية / ميتو دولوجية ـ وبالملموس ثمة استخدام حتى لبعض حالات وقونَنات تأثير السيبيرنيتيك وعلاقتِه باللسانيات عدا علم اللغة المقارن. هذا هو الحجم الفعلي للإشكالية والبعد الحقيقي للمشكلة معرفياً وعلْمياً محسوبةً أصلاً ومبدئياً ميزو اختصاصيّاً.

وهكذا جاء في العناوين ذاتِها إيضاحات عامة في المقدمة وتقويم انتقادي للسانيات وعلم اللغة ككل ـ «نظرة في علم اللغة»، وإسهابات في خوض غمار وأغوار «الملاحظات حول مشكلات اللغة العربية» مراراً وتكراراً، وعلم لغة مقارن تطبيقياً في حقلٍ بكْر تماماً ولأول مرة تحت عنوان «مقارنة لغوية» بين العربية الفصحى والإنكليزية والروسية والعاميتَين الأشهر عربياً ـ الشامية والمصرية، وفي ميدان أنموذجي دالّ وفعَّال هو حقل الضمائر المختلفة؛ ثم يأتي دور الاستشرافات ومسارات التطوروالمآلاتالتنبُّؤيةالتوقُعية، وذلك ضمن عنوان مسهب مفصل منهجياً ومضمونياً هو «اللغة العربية والتطور»، وفي استخلاصات هامة أيضاً، ولاسيما في اتجاه اعتماد سياساتواستراتيجيات لغوية فعَّالة، وأننا أحوج أمة على وجْه الأرض إلى هذا في ظل أوضاعِنا اللغوية الدرامية المعقَّدة والمتحوّلة والحساسة والهشة جداً؛ ثم أتى في النهاية عنوان خاص بإيضاح كل شيء وإماطة اللثام عن أيّ لبْس أو إشكال بشفافية عالية وبمحاورة ومعالجة لأي سؤال وأيّ مسألة واقعية حقيقية أو افتراضية تخيُّلية أو وهْمية يمكن طرحُها، ومنَ الإجابة على تساؤلات افتراضية تخيُّلية حينذاك، ربما لم يعتد أحدٌ عربياً على طرحها في ظروف ذلك الزمن، حول تصنيف هذا النوع من الدراسات التي تتناول اللغة العربية كإشكالية وموقعها علْمياً وعالمياً وتاريخياً…إلخ، لكنني أنا طرحتُ السؤال المتخيَّل على نفسي وأجبْت باقتضاب واختصار في تسجيلات نقْدية وتقويمية ذاتية للدراسة ككل ولهذا النمط من الدراسات المشابهة المحتملة ـ مِن تسجيلات نيسان 1979 وكما يلي:

«2 ـ إن تناول موضوع اللغة عموماً واللغة العربية خصوصاً لم يتم هنا على شكل دراسة لغوية أوْ لسانية، بل هو تناول فكْري عام، تتداخل فيه المسائل والقضايا اللسانية بالمعطيات السوسيولوجية وتندمج هذه جميعاً في أطُر فلسفية إيديولوجية بمعنى آخر فإن الدراسة السابقة هي نموذج تعدّد وتنوُّع الوسائل المستخْدمَة في خدمة هدف واضح معين مع مراعاة شروط الأمانة العلْمية والروح الموضوعية»([1]).

والحقيقة أن التمحْورُ المشكلاتي ـ حول مشكلة للحلّ ـ، والتمحوُر الموضوعاتي ـ حول موضوع معقَّد، وما إلى ذلك هو الذي أتى بَعد حين بما عُرِف بالمقارَبةالمشكلية / المشكلاتية، والمقارَبة المعقَّدة/المُركَّبة ـ المقارَبة التكاملية…إلخ وللأمانة لم تتبلور وتنضج مقاربات كهذه وأمثالها قبل نضوج وتبلْور المشكلات الغلوباليةglobal/гΛobαΛbH. الكوكبية بَعد بدايات الثمانينيات أو بتحديد أكبر بَعد عام 1981 حين صدرت ثلاثة أعمال كبيرة دفعةً واحدة لمعالجة «منظومة» المشكلات الغْلوبالية/الكوكبية، ولها ذات العنوان لمعالجةٍ كلّيانيةٍ شاملة منظومية وتكاملية مركبة لها، وهنا نضجتْ بالتالي على نارِ أشهرِ وأكبرِ مشكلات العصر الكبرى ـ نضجتْ وبدأت تتبلور المقارَبات المشكلية/ المشكلاتية، وتطوَّرتْ نوعياً المقارَبات التكاملية المركَّبة/المعقَّدة، وكنتُ من روَّاد مَن اشتغل بها أيضاً حينَها بالضبط ومنذ البدايات، وقد أوضحتُ هذا الجانب المنطقي ـ المنهجي من المسألة في نصٍّ توضيحيّ مكتوب منتصفَ الثمانينيات ومنشور عربياً عام 1986 في بيروت/ مجلة دراسات عربية سآتي إليه لاحقاً لأنه يتطرق إلى مقاربات كثيرة أوْسع من المقاربَتين المذكورتَين آنفاً.. هذا إضافة إلى نصوص مِن أعوام 1981 ـ 1982 ـ 1983 ـ 1984 ـ 1985 على التوالي فما بَعد.

***

تجربتُنا التكاملية التركيبية الفِكر وْلُغوية (أوْ فكْر ـ اللُّغوية) توثيقاً في منْشورات دورية آخرَ السبعينيّات

بدأتُ بعد عام 1977 ـ عام عودتي إلى الوطن ـ بالنَشْر الدوري المكثَّف أيضاً في الحال منذ النصف الثاني لذاك العام ـ أواخرَ الصيف فالخريف فما بَعْد. وكانت أجزاءُ من كتابنا في اللغة واللسانيات والعربية ممَّا بُدئ بنشرِه حالاً آنَها، ومنها «نظرة في علم اللغة» [في مجلة جيش الشعب، ع1313، في 18ت1 1977، ص32 ـ 34]؛ وأيضاً في مجلة المعرفة [دمشق، ع209، تموز (يوليو) 1979، ص110 ـ 117] حيث تجد رصْداً لِلعلاقة التفاعلية بين علم اللغة والفلسفة، ولاسيما منطقياً/منهجياً ورؤيوياً كالعادة، ولِِنشوء اللغة، ولِلاتجاه العام لتطور اللغة، ولأِسباب وكيفية تطور اللغة، ولتأثير التناقضات الخارجية والداخلية في ذلك، ولِتفرع اللغة إلى لهجات ولغات، ولِصراع اللغات: هذا باختصار، أما الذي يستحق وقفة أكثرَ تأنِياً فهو ما ورد في القسم الذي عنوانه «اللغة العربية والتطور» في سياقِنا الحالي [مجلة الفرسان الفكري والسياسي، العدد 11 عدد ممتاز 1979 ـ والمجلة فصْلية ـ ص114 ـ 120].

وهنا ومنذ البند الأول منْطلق مشكلاتي أو مقاربة مشكلية للعربية:

«إن بحث موضوع مشكلات اللغة العربية ومعالجتها ومناقشة اتجاهات التغير الفعلي والممكن والأفضل للعربية، ورسم خطوط مستقبلها ـ هذا كله يملك أهمية كبيرة وملحَّة الآن»: هنا روح استشرافي أيضاً… «في هذه الظروف المعقدة المتشابكة من حياة أمتِنا، يلزمنا ـ أكثر من أي وقت مضى ـ روح علْمي مسؤول وملتزم…»… «يجب التأكيد أن وجود بعض المشكلات في مجتمعنا لا يبرر لنا إهمال المشكلات الأخرى، لأن فهم وحل قضية معينة مرتبطان تماماً بفهم وحل القضايا الأخرى، وبقدر ما يوفره حل مشكلاتنا ككل من تسهيل وإمكانيات لحل المشكلة اللغوية، كذلك فإن العكس صحيح أيضاً… فالعمل الناجح المثمر هو العمل الذي يشمل المجالات المختلفة بشكل متكامل متناسق.»

وقد جاء ضمن البند السابع ـ 7 ـ كتلة من الجمَل والفقرات المطوَّلة المتصلة بمحورِنا الحالي، هي ذي:

«على مدى التاريخ كان التقدم الاجتماعي يسير ليس بسرعة ثابتة بل بتسارع واضح مركّب… وصولاً إلى الحصول على الطاقة النووية والتقنيات الأخرى المعروفة حالياً كالطاقة الشمسية والتحكم في الظواهر المناخية الطبيعية، والتقنية الفضائية والسيبرنيتية… انّ التقدم التقني جرى في المحصلة بتسارع مركَّب ـ إن ممارسة الكلام هي قضية فيزيولوجية في الأساس، يتحقق التغير فيها عبر التغيرات الفيزيولوجية المقابلة حتماً (إذا كان تطورها ذاتياً طبيعياً بتأثير عوامل داخلية) وهي تغيرات بطيئة جداً بالنسبة لسرعة التغيرات الاجتماعية في وقتنا الحاضر. لقد كانت التغيرات الفيزيولوجية والاجتماعية متقاربتَين في مراحل سابقة من مراحل تاريخ البشرية، أمَّا في عصرنا الراهن فعلى الرغم من التأثير والتسريع اللذين تقوم بهما التغيرات الاجتماعية على التغيرات الفيزيولوجية، تبقى الأخيرة أبطأ من الأولى مهما أوتيت من حظّ في التسريع.» ـ .

وللبيان أشير إلى اشتراك معارف وعلوم عديدة حتى في صياغة فقرة كهذه: بيولوجيا وفيزيولوجيا ـ اجتماعيات ـ تسريع وتسارع وميكانيكيّات / علوم طبيعية ـ تغيُّر ومسارات واستشراف ومستقبليات ـ إنجازات علمية تقنية مركَّبة ـ كلام وممارسة كلامية ولغويات…إلخ، إنما أردت إعمال العقل في هذا النص تحليلاً وتفكيكاً وتشريحاً لإيضاح الطابع التكاملي المركب وبين ـ ميزوْ ـ الاختصاصي لأِبسط الأفكار والحقائق والتصورات والقنونات التي نعبر عنها بالفطرة أحياناً من غير أن ندري أو نعقل أو نعي ذلك ظانيّن وواهمين أننا أصحاب وممثلو اختصاص واحد ووحيد (مونو) بدل الميزوْ، والمولْتي، والبولي…إلخ، كمثل ذاك الزاعم أنه شاعر وينظم الشعر فقط غيرَ فاطِن إلى أنه ينثر وينتج نثراً لا شِعراً.

ـ وفي البند 9 إشارة إلى عدم انحصار أو انحشار أوْ ضيق الاختصاص في هذه الإشكالية، بل وكونها أوْسع مما هو متوقَّع ومتعارَف عليه، فلنقرأ بعض المقْتَطفات:

ثمةَ «ما يدعو إلى الاستنتاج أن تحديد اتجاهات التغير اللغوي غير مقصور على الأدباء والكتاب ولا على اللغويين وحدهم بل يملك أبعاداً إيدولويجية وسياسية شاملة.».

ـ بند /10/: «إنَّ الأفكار القوية الراقية تستطيع أن تتخطَّى كثيراً من الحواجز التقليدية».

هذا هو في الحقيقة ما يحصل بين العلوم والاختصاصات من انتقال وتناقُلات من المنسوبات الأعلى إلى الأدنى: انتقال وتناقُل الأفكار والمناهج والطرق والطرائق والمعارف النوعية والمهارات والخبرات والحنكات الاستعرافية واقتباسات وتقابُسات ومُقابسات من شتى الصنوف والأنواع المذكورة وغيرها وما هو أكثر وأبعد منها من وسائل وعمليات معرفية واستعرافية، علمية وميتودولوجية…

ـ في نهاية البند 12 تداخل في استخدامي لمفردتَي النظام والمنظومة تناوبياً [تذكَّرْ أن هذا حصل نهايات السبعينيات] في حين كانت الثقافة العربية غريبة ومغتربة عن هذه الأجواء الفكرية، وهي حين بدأت تستيقظ وتعي ذلك هامتْ حبّاً وغراماً بمصطلحات النظام والنَسق فاحتاجت وقتاً طويلاً مضاعفاً لتهضم وتستسيغ وتتبنَّى مصطلح المنظومة.

اقرأْ معي الجملة التامة التالية برصيدٍمفهوميٍّ مصطلحيٍّ متداخل ومشترك مما ذكرْت(رصيدٍ أوْ ذخيرةٍ):

وكما قال أحد اللغويين المعاصرين فإن «تأثير العوامل الخارجية على تطوير النظام اللغوي يتحقق في معظم الحالات، ليس عن طريق تهديم نظام اللغة وإدخال عناصر جاهزة لمنظومة غريبة عنه، بل بطريق التأثير على التطور الداخلي للنظام اللغوي ذاتِه»: هذا ما أردْتُ التأكيد عليه لسببَين: أولهما أنني أعي تماماً دوري الحاسم في اسِتحضار أو إدخال مفهوم ومصطلح المنظومة إلى منظومة اللغة العربية والثقافة والفكر العربيَّين منذ تلك الأيام وقبلْها باستخدام واسع ومكثَّف وهادف للتدقيق والتفريق عن النظام متعدد الدلالات بخاصة.. وثانيهما لأن مفهوم ومصطلح المنظومة شديد المركزية والمحورية في كافة أرجاء دراستِنا الحالية التي لم نعرِّجْ فيها على بين الاختصاصية والتركُّبية والتكاملية وبعض المنظومية إلاَّ تمهيداً لتصب جميعاً كفروع في نهر المنظوميَّات الكبير والعظيم بقاموسها الغنيّ الثَّرّ الذي أنشأْناه وطوَّرْناه لاحقاً ليصبح بعَشرات المفردات الهامة.

ـ في البند 14 إشارة أخرى إلى الإشكالية المصطلحية:  «على الرغم من وجود فوضى في المصطلحات الموجودة حالياً، إلاَّ أن هذه المصيبة لم تنتهِ بعْد وسيستمر طويلاً دخول مصطلحات أخرى جديدة.».

تَعدُّديّات

انتبهْ معي إلى ظاهرة المولتي ذاتها باعتبارها من المشْتَركات الثقافية ـ المعرفية ـ العلمية ـ الفنيّة….إلخ، إذْ كما أننا نتحدث هنا عن الموْلْتي ـ اختصاصية (تعدُّدية الاختصاص) فثمة كما تعرف وقد يعلم الجميع أو الأكثرية مولْتي ميديا (تعددية الميديا أو الميديا التعددية)، بل إن صحافياً في جريدة تشرين عنْون زاويتَه منذ أيام ـ على رائحة اهتماماتنا وعن بُعْد ـ بيافطة «التعددية الرقمية» (كأنْ تقول موْلْتي ديجيتال مثلاً)، وقبل ذلك كنتُ لحظْت فردياً وشخصياً حين إقامتي في موسكو خلال السبعينيات ثم في النصف الأول من الثمانينيات، وأنا المهووس حينها بالمسرح ـ لحظْت ميلاً جارفاً وحداثياً إلى مسرح المشاهد الفردية (المفْردة) أي أنَّ المسرحية الكلية ليست واحدةً موحَّدة بل مجموعةٌ من المسرحيات الصغيرة أوْ المشاهد أوْ… شيءٌ من هذا، ولا تزال تطِنّ في أذني عبارات: أَدْنو/آكْتنيي/سبيكْتاكيلي = (على ما أعتقد) مسرحيات وحيدة المَشاهِد، وكذلك أَدْنو/آكْتْنيي/باليْتي = (//) باليهات وحيدة (وحدانية) المشاهِد، وقسْ على ذلك، أي أنَّ المحصلة هي أن المسرحية تصبح فعلياً مولْتي مسرحيات، والبالية يصير موْلْتي باليهات…إلخ. وقد برع مسرح «أوبْراز تْصوف» للعرائس للكبار في ذلك مؤخَّراً في مشاهِده الثرية العديدة المنْعزلة خلال الحفلة الواحدة في أعمالِه الشهيرة التي منها: «يتحدث ويُري التلفزيون المركزي»، وأيضاً «حفلة غير عاديّة»..إلخ.

هذه المقدمة ستقودني للتنبُّوء بنوعٍ من انفجار المولْتي في ميادين عديدة وفي نشاطات وفعاليات متنوِعة. وأستطيع أن أسحب ذلك في استشراف رجوعي/انعكاسي إلى الخلْف (على طريقة الفْلاش باك) بأنْ أطلق تسمية مولْتي أعياد على فترات وشهور الازدحام بالأعياد والمناسبات والاحتفالات أمثال شهر آذار مثلاً: مولتي طقوس بالتالي بالمعنى الثقافي أو بمنظور إناسي/انتروبولوجي؛ وبالفعل راجع معي هذه الأسماء والتسميات التي عهدْتَها وألفْتَها وقد لا تكون فكْرتَ بها: عيد الأرض ـ عيد الأم ـ عيد النيروز (النوروز) ـ عيد شم النسيم ـ عيد الطبيعة ـ عيد الربيع… وأضفْ إلى ذلك مثلاً عيد الرابع المجاور (عيد الاستقلال في سورية)، وقبله بشهر ونيف عيد الثورة في سورية (عيد 8 آذار) وما إلى ذلك، فأنت حقاً أمام ربيع أو آذار من صنف ورتْبة المولْتي عيديّ (أومولْتي أعياديّ). هل تعلم أنني استخدمْت هذه التعددية والتداخلية الطقْسية العيدية، الثقافية الإناسية، كي أتسلل عبْرها وأعرِّف بأحد أعضاء هذا الموْلتي الذي كان غائباً أو مغيَّباً عندنا حتى عام 1978: عيد آخر منْ أعياد آذار الذي كانت زحمة الموْلتي هذه تعيق ظهوره أو إعلانه والجْهر به فكان لا مفرَّ من التسلُّل مولتيّاً لفعل ذلك، اِقرأْ معي إذن ما كتبتُه على أعتاب الثامن مِن آذار عام 1978 وقدَّمته للنشر إلى جهةٍ كانت لا تتلكَّأ ولا تترد في نشْر موضوعاتي حالاً وبأسرع ما يمكن، لكنَّها «دقَّرتْ» في هذه الحالة وأرجأتْ وتمهَّلت فلم تنشرْه إلا بَعد أيام عجاف تقارب الأسبوع ولماذا في رأيك؟ ـ لأنَّ المقال يدشن ويعلن ـ تسلُّلاً ـ أهميةَ وغيابَ عضو آخر من عائلة مولتي أعياد آذار: أعني يوم المرأة العالمي والذي يصادف ويزاحم، إمعاناً في الإحراج والحساسية، مناسبةً أخرى محلية في ذات اليوم ـ في 8 آذار، وهكذا جرى الإرجاء والتمهُّل لا لشيء إلاّ كي لا أكون أنا أوَّل مَن يجهر بضرورة احترام المناسبة وتقديرها وكي يكون الذي يعلن ذلك و«يدشِّنه» شخصاً آخر أيضاً، أوْ قلْ مسؤولاً أوْ مَنْ هو أعلى مستوىً… وهكذا نُشر مقالي أخيراً ـ «يوم المرأة العالمي» في 12/3/1978 في جريدة البعث في دمشق، في العدد 4121، وكان استهلالي منذ البداية فيه كما يلي حذَراً وتقِيَّةً في ظرف ذلك الزمن المبْهَم: «الثامن من آذار عيد وطني وقومي، وفي هذا اليوم أيضاً يحل على الأرض ربيع حقيقي… والثامن مِن آذار أول شجرة ميموزا … وعلى الكرة الأرضية كِلها عيد ـ عيد النساء في تضامِنهن العالمي وسعْيِهن نحو الديمقراطية والحقوق المتساوية مع الرِجال. انتهى. كلّ مولْتي ـ قصْدي كل عام ـ وأنتم بخير.

([1])تأملات في اللغة والثقافة؛ دار «الشام القديمة»، 2000 ط1، دمشق، ص63 ـ 64.

يلزم التذكير مجدداً أنَّ الجزء الأول من الكتاب ـ «نظرة في اللسانيات واللغة العربية» مكتوب نهايةَ عام 1976 وبدايةَ عام 1977 في موسكو، واطّلَعتْ على أكثر استنتاجاتِه ومحتوياتِه دوائرُاستشراقية كثيرة و«فعَل فِعْلَه» حالاً أيضاً.

 

د. معن نقري