ثقافة وفن

فيكروْغرافيا فلسفية

2

في حين كان قسمُنا يُصرّ على رؤيْة الغلوباليسْتيكا من زاويتها العلْمية البحتة متوهِّماً أنها مشكلات علْمية نظرية للدراسة أساساً، فإن سميرنوف كان أجرأ وأعمق في ربط النظري بالعملي، والأكاديمي بالتطبيقي بعكس بيئة مماحكاتي المريرة وحواراتي مع التصورات العقيمة في قسمِنا حول ذلك، لأنني لم أكن أرى فيها إلاَّ وحدة البشري العام مع العلمي العام ووحدة التطبيقي الواقعي مع النظري، وهكذا تجد لدى سمير نوف في الصفحة 56 ما يلي، من حديث حول: الامتلاك ـ OBΛaDeHue النظَري والتطبيقي للمشكلات الغْلوبالية/الكوكبية. أذكِّر بعبارة إحداهنّ من قسمنا (وهي المرْسلة والممثِلة والمِكلَّفة «بإقناعي»): عندك في التصنيف أن الإنسان مشكلة غْلوبالية/كوكبية، وأنت إنسان، فهل أنتَ مشكلة غ./ك.؟ تصوَّرْ يا رعاك الله!!

ومما يؤكِّد عدم وجود أو ظهور مصطلح غلوباليزاتْصيا ΓΛObαΛuzαцuЯ بعْد في الأدبيات والمرجعيات الروسية حتى ذلك الحين ـ عام 1985 [ونحْتُه في أطروحتي كان استثناءً ومنذ عام 1984] أنَّ سمير نوف للتعبير عن هذه العملية/الظاهرة اضطر أكثر من مرة في ص57ـ58 إلى مقاربتها والدنوّ منها تعبيراً عبر مصطلح التأميم/التأممّ ـ إنترْناتْصيوناليزاتْصيا ـ UHTepHaцuoHaΛuзαцuЯ: «تأميم/تأمم الوجود البشري (الكينونة البشرية)» نهاية ص57، وقد كتبت هامشي هنا مؤخراً عند التصفُّح كما يلي: إثبات أن مصدر غْلوباليزاتْصيا ΓΛObαΛUzαцuЯ لم يأخذ دوره ولم تُكتشفْ آثارُه فوظيفتُه بعْد. وكتبتُ هامشاً «بذات الملاحظة» في الصفحة التالية على حديثه عن «تصاعد ـ تأميم/تأمُّم وجود/كينونة البشرية» (أو التأميم/التأمم المتصاعد/ المتقوّي….). ويصف هذه المشكلات بأنها، على إثر زغلادين ـ فرولوف، إنترْاجتماعية شبيهاً لوصفي لها على أنها «سوبراجتماعية».

وأذكر أن البروفيسور «بارولين» رئيس المجلس العلمي للدفاع الذي دافعتُ فيه قد أبدى إعجابهُ مِراراً بهذا التعبير، وكان يردد بين الفينة والأخرى: سوبر سوبر…

وأمَّا الذي لحظْتُه اليوم وخطر لي لأوَّل مرة فهو الربْط بين «سوبَّرَين»: أحدهما هذا ـ السوبر اجتماعي ـ الذي استخدمتُه في الأطروحة وفي الدفاع عام 1984 وتالياً، والثاني هو السوبر صناعي لدى ألفين توفلر في كتابه المنشور عام 1985 بعنوان «الشركة التأقْلمية» والذي كتبتُ عنه في دوريات لبنانية: في الفكر العربي (حول المجتمع الصناعي وبعد الصناعي … ع88، ربيع 1997…) وفي دورية السفير/ الثقافي/ ع109، في 23/1/1998، كما في دورية الكفاح العربي في بيروت أيضاً (حول نظريات وأعلام أجيال مجتمع المعلومات) في بيروت ـ 23/1/1998 أيضاً ـ أي في اليوم ذاتِه.

وعليكَ أن تجد بنفسِك الخيط الواصل بين ما هو سوبر اجتماعي وما هو سوبر صناعي: مشكلات كوكبية اجتماعية علْيا/ سوبر اجتماعية (سوبر سوشيال) ومجتمع صناعي أعلى/سوبر صناعي (سوبر إندوستْريال) ـ أي Super Social وَ Super Industrial على التوالي.

وعلى العموم فإن الدهشة تنتابني في درجة الشبَه في توصيف ترابط وتفاعل المشكلات الغلوبالية/الكوكبية بين ما أورده سمير نوف عام 1985 وما سبق أن وصفتهُ قبل ذلك بسنوات، ولاسيما في دراستي (العربية مباشرةً، ولكن في موسكو عام 1982) بعنوان «دور الفلسفة في دراسة وحل المشكلات الكوكبية» والتي أخذها واطلع عليها حالاً آنَها كل من د. توفيق إبراهيم سلوم السوري، ود. سهيل فرح اللبناني مباشرةً ومَنْ تلاهما بعْدَها بإحسان أو بغيرِهِ، والتي وجدْتُ طريقاً إلى نشرها بعد سنوات عديدة مديدة، وبعد العودة إلى الوطن، في المجلة البيروتية ـ «الفكر العربي» عام 1989 (العدد 57، منتصف العام) فالوثيقة متاحة حتى للمقارنة عند اللزوم.

والجوّ العام في فصل سمير نوف مكرَّس أساساً لإيضاح هيمنة مجموعة المشكلات الاجتماعية [التي هي في تصنيفي الأسبق منذ عام 1982 مشكلات «الدارة الاجتماعية» وحسْمِها لمصير مجْمل مجموعة المشكلات الكوكبية كلها، بما في ذلك ما هو منها طبيعي وما هو علْمي ـ تقني أي ما ينتمي عندي إلى دوائر أخرى كدائرة التفاعل الاجتماعي ـ الطبيعي والدوائر المشتركة وغيرها] … وكان مبدأ هيمنة وحسم المشكلات الاجتماعية (أو مشكلات الدارة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية المتبادلة ـ محلياً وكوكبياً) هو المبدأ الذي ارتقى إلى مستوى إحدى النتائج المهمّة في أطروحتي الكاملة، كما ذكرْته في الأفتوريفيرات/ البروشورا أو الكراس المركَّز الموجَز عنها، وكان البروفيسور «كوبتصوف» رئيس قسم الفلسفة لكليات العلوم الطبيعية حينها ـ أي قسمنا ـ قد رَاجَع الأفتوريفيرات ليجد أن حل مشكلات الدارة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية المتبادلة شرط ضروري وحاسم وذو أولوية وسطْوة لحل باقي المشكلات الغْلوبالية/الكوكبية ككل من سائر الانتماءات وسائر الدوائر، ولا أدري ما الذي قاده إلى الفهمْ القاصر للفكْرة، بل وتشويهها ليشطب ويكتب أنَّ: العلاقات الاجتماعية ذات أولوية على القوى الإنتاجية (وتذكَّر معي قوى وعلاقات الإنتاج من قرنٍ ونصف) وتساءلْتُ حينَها ما الجديد؟ أين الجديد الذي سيبقى عند تعديل فكرتي الأصلية ومسْخِها وتقزيمها هكذا؟؟ وكان جهاز المراقبة الدائمة (على مدار الساعة) في الغرفة السفلى تحت غرفتي يقهقه بملء الأشداق إعجاباً بهذه المفارقة وما شابهها مِن مفارقات الحياة السوفييتية والفكر الدوغمائي فيها آنذاك. يبدو مجدَّداً أن الحذر الزائد والخوف من رقابة «الأعلى» وكرباجه الإيديولوجي كانا يرسمان حدود حركة الفكر حينها، لم أكترثْ لكل هذا، لذا شطبْتُ التشطيب وأبقيت فكرتي ونصّي للتبييض النهائي وليكون بعدها ما يكون، وهكذا طُبع الأفتوريفيرات كما هو وكما أردت ووزّع بمائة نسخة على كافة الجهات المهتمة منذ نهايات عام 1984، وحتماً كان لا بد لأمثال سميرنوف أن يطلعوا عليه، بل ويحتفظوا بنسخ منه عندهم في «إينيون» وهو رئيس القسم المتخصص وبذات الاختصاص في هذا المعهد الأكاديمي.

حول «هيمنة» العوامل والمشكلات الاجتماعية على مجموعة الكوكبيات راجع بخاصّة ص58 في البروشور من مقال سمير نوف.

ربما كنت أشرْت إلى قضية لافتة وهامة هي ما ورد في البروشورا من سلسلة المعرفة 4/1985 في الصفحة 62 من تصنيف مشكلة الإنسان ووصفها بأنها غلوبالية/كوكبية، وفي الصيغة المحدَّدة التالية: «مشكلة الإنسان الغْلوبالية/الكوكبية»، فهنا تبدو مشكلة الإنسان مستقلة وكافية ووافية في منظومة المشكلات الغلوبالية/الكوكبية، أو كما سميتُها من عام 1982 بأنها مشكلة غلوبالية/كوكبية، وفي الوقت ذاته دائرة كبرى مستقلة (المشكلة الوحيدة «الصغيرة» الكبرى)، وهذا في ظروف وعلى عكس تصنيفات تلك الأيام التي لم تستطع فصل مشكلة الإنسان عن غيرها وعزلها أو جعلها مستقلة مشْبَعة، بل كان التطرق إليها يحصل في سياقات أخرى بالحديث عن مشكلات العلاقة بين الإنسان والمجتمع، أو العلاقة بين الإنسان والطبيعة…إلخ (ولاسيما عند زغْلادين وفرولوف مثلاً).

أخيراً لفت انتباهي جدّياً جداً لدى التدقيق والتمحيص المركَّز والمفصَّل المسهب على فصل سمير نوف مجدَّداً أنه يستخدم مصطلح «غلوباليزاتْصِيا» (وهذا عام 1985)، وفي الصفحة 54 من البْروشورا، وكانت هذه بالنسبة لي مفاجأةً كبرى تقترب من دهشتي عند اكتشافي استخدام المصطلح في أطروحتي، منذ سنوات، في بداية فصل «الحياة الثقافية» ـ الثالث ـ من أطروحتي ثلاثَ مرات في صفحة واحدة، وذلك منذ عام 1984. جاء في ص54 عند سمير نوف ما يلي مثلاً: «ينمون إلى مشكلات كوكبية» [ما يعادل فكرة يتكوكبون]، وأيضاً: «المشكلات الاجتماعية تصير كوكبية» [ما يعادل فكْرة تتكوكب]، تابع هنا في الحال: غْلوباليزيرويوتْسا أيضاً: مشكلات…إلخ ΓΛObaΛUZUPyЮtcя أيْ يتكوكبون (للجمْع) أي المشكلات تتكوكب.

واقرأْ الصيغ اللغوية البحتة الوفيرة المعبّرة عن الكوكبة والتكوكُب كمصادر في السياق المطوَّل التالي:

«… مشكلات تتصعَّد وتنمو إلى مستوى الكوكبية/الغْلوبالية ويُكوكبون (م. تُكوكب) ـ غْلوباليزيرويوت/ ΓΛObaΛUZUPyЮt ـ مشكلات العصر الاجتماعية الجذريَّة… بل العكس المشكلات الأخيرة هي التي تُكوكِب/ غْلوباليزيرويوت ـ ΓΛObaΛUZUPyЮt الأولى، وهي التي تُصِعّد وتوتّر مشكلات كذا كذا… إلى الارتفاع والحِدّة الغْلوبالية/الكوكبية.

 

د.معن النقري