ثقافة وفن

الجانب الأنثوي من “جلجامش”

اتفقت معظم القراءات التي قدمت أسطورة “جلجامش” على الذكورية المفرطة الحضور فيها، “جلجامش” نصف الإله، ملك أوروك الذي يعلي من أسوارها أعلى فأعلى ليبقى منيعا بمناعة أسواره، الباطش الذي لا يعنيه من يقتل وبمن يفتك؛ ولا قدرة لأهل مدينته منع بطشه وتعطشه الدائم للنساء، لكن هذا الاتكاء المفرط على الذكورية في الشكل، ما هو في الحقيقة إلا لتقديم الجانب الأنثوي بحضوره القوي والعنيف حينا والحكيم حينا أخر وبالحب أحيانا أخرى، فمن قام بتمدين الوحش “انكيدو”؟ من روضه و لجم روحه البرية؟ من قلم أظافره، وعلمه الحياة الإنسانية؟ من أنسنه وأنسّن همجيته؟ إنها كاهنة معبد البغاء المقدس، -كان البغاء مقدسا في تلك الدهور-، إنها المرأة التي بقيت معه سبعة أيام في الغابة، تُعيد تكوينه وصياغة روحه، لتأتي به إلى أوروك، وانكيدو الذي اتفق أهل المدينة على أن يجلبوه ليتعارك مع جلجامش، فإما يقتله جلجامش، أو يحدث العكس، وفي أسوأ الأحوال، يتعب الأثنان معا لفرط قوتهما من القتال، فيصبح من السهل قتلهما- وهذه من أدهى الخطط السياسية في التاريخ- هذا الانكيدو لم يكن إلا ذئبا ضاريا، ووحشا ترتعد الفرائض لزئيره الذي كان يُسمع في أوروك النائمة، رمز الذكورة المفرطة في ذكوريتها، يظهر لها الرمز الأنثوي، فما ترويض أنكيدو وجعله أدميا، إلا رمزا لكون المدنيّة صنعتها المرأة، حتى ليقال بأن الحضارة من أصل أنثوي، ولولاها لما كان ثمة حضارات، لأن الرجال مشغولون بالحروب.

لكنها لا تنكفئ تظهر أي “الأنوثة” في جانبها القاسي العاصف، فها هي عشتار تجهز “ثورها المقدس” لينال من جلجامش الذي أجابها عندما عرضت عليه حبها، الجواب الشهير” ما أنتِ إلا إناء يفيض على حامله، وحذاء يتعثر به مرتديه”، وهذا لا يُقال لـ الربة “عشتار” إلهة الجنس والحب والجمال، ليزداد حنقها بعد أن قتل كل من جلجامش برفقة انكيدو ثورها المقدس، فتبدأ بحثِ مجمع الآلهة على قتله.

يحضر أيضا الجانب الأنثوي في جانبه الحكيم، في القصة في واحدة من أهم ذرواتها العديدة، فبعد موت انكيدو، وبدء جلامش رحلته للبحث عن عشبة الخلود، يدخل الحانة ويدور ما يدور من حديث بينه وبين صاحبتها التي تسأله مباغتة إياه: لماذا تريد الخلود؟ ألا تعلم أنه ممل؟، وإن لم يكن وصف الخلود بكونه مملا، حكمة عظيمة، فماذا يكون؟.

أسطورة جلجامش، صراع حاد بين فكرين، لا يزال دائرا حتى الوقت، صراع فلسفي، أدبي، ديني، علمي، فكري، لا يقوم إلا بالرمز الأقرب للعاطفة –أي المرأة-والرمز الأقرب للقوة وهو الرجل هنا، وأي انكسار في أحدهما، هو انكسار للأخر.

تمّام علي بركات