محليات

الحياة على حافة الحياة.. وحدّ الموت

تهبط يوميا بالسرفيس من إحدى قرى ريف دمشق البعيدة، قبل شروق الشمس، حاملة فوق رأسها “طنجرة” كبيرة فيها أقراص جبنة، صنعتها طوال الليل بيديها اللتين فعل بهما الزمان ما فعل، وعلى حضنها يرتاح كيس من الخيش، فيه العديد من أنواع الأعشاب البرية مثل “الهندباء، الخبيزة، السلق، السلبين وغيرها” تلك التي تقطفها من البرية المحيطة بها على اتساعها، وهذه الأعشاب التي تُسمى في الخارج بالنباتات العضوية، ويُدفع مقابلها مبالغ محترمة باعتبارها خالية من أي مواد كيمائية، تخرجها أمنا الأرض لتكون غذاء للكثير من العائلات السورية، وهي أي تلك الأعشاب، لا يساوي ثمنها ربع التعب الذي تصرفه السيدة “أم صالح” لتجمع منها كمية لا بأس بها، وذلك ليصبح لديها تجارتها البسيطة، تجارة  تعيل عائلتها الكبيرة، التي غيب الموت رجلها، عدا عن عائلة ابنها المفقود، والذي لم تعرف أو تسمع عنه خبرا منذ 5 سنوات.

أم صالح السيدة الخمسينية، بجسدها النحيل وقامتها التي أحنتها الأيام بمرورها الثقيل على قلبها وعاطفتها، تجلس كل يوم في واحد من الأسواق الشعبية، منتظرة قسمتها من الرزق البسيط، ذاك الذي يبقيها وأسرتها الكبيرة، على قيد الحياة، ولو كانت كما يقال “حياة على الرمق الأخير”.

“طوال عمري وأنا ربة منزل وأم، زوجي كما كل الأزواج هو من كان مسؤولا عن إعالتنا، لكنه اليوم تحت التراب، وابني الكبير، لا خبر عنه منذ مدة طويلة، ولا أدري إن كان حيا أم لا، قلبي يخبرني أنه حي، لكن الواقع عكس ذلك”، انحدرت شبهة دموع من عينيها التي كثرت تحتها تجاعيد الإرهاق والتعب، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، وعادت للحديث: ” يحدث بين الحين والآخر أن اضعف أمام مصائب هذا الزمان، لكن البكاء لا يطعم الأفواه الجائعة، ولن يشتري الأقلام والدفاتر والكتب، للأولاد الصغار، الذين لا يحق لنا أن نحرمهم من الدراسة التي بقوا مواظبين عليها، رغم كل ما مرّ علينا من أهوال وخطوب خلال هذه السنوات المنصرمة”.

وتتابع: “قمت بتقديم طلب إعانة إلى إحدى الجهات الحكومية، التي قامت مشكورة بإعطائي “بقرة” حلوب، بقرة أداريها برمش العين، فهي من تطعمنا وتصرف علينا من حليبها ومشتقاته، ورغم السعر المرتفع للغذاء الذي تتناوله شتاء، بعد أن يختفي العشب من المروج، كالتبن والعلف، إلا أنني أشعر أنها شريكتي الحقيقية في خوض معابر هذه الحياة المليئة بمطبات الرشاوي والاستعطاف والترجي، حتى أني أكلمها وأبثها همومي، كما لو أنها صديقتي، وأحيانا اشعر أنها تفهم كل ما أخبرها إياه”.

تعود أم صالح إلى بينها مع غروب الشمس، لكن يوم عملها لم ينتهِ بعد، فهي من يحلب الحليب، وهي من تصفيه وتصنع منه الجبن، وهكذا تمضي أيامها متشابهة حد التطابق، بعد أن نسيت أنها امرأة، ولم يبق في خاطرها، إلا أن تنجو بعائلتها من الفاقة والجوع، اللذان فتكا بالعديد من الناس الذين تعرفهم: “الجوع والفقر يخيفان أكثر من الحرب نفسها، وأقولها لك بعد الاستغفار، أنني طلبت من الله أن يأخذ أمانته ويريحني من هذا الشقاء، وها أنا كما ترى، على هذا الحال منذ سبع سنوات”، قالت أم صالح، قبل أن يقطع حديثنا سؤال إحدى السيدات عن سعر الجبنة، ثم تابعت أم صالح حديثها المطرز بالأسى قائلة: “هل تعتقد حقا أنك وبنقل حالتي إلى أوراق الجرائد، ستُغير هذا الحال؟ تخيل هذا المكان الذي أجلس فيه، يوجد من يريدني أن ادفع له أجرته، وهو مساحة صغيرة كما ترى من الرصيف، عدا عن المصادرات العديدة لرزقي ورزق أبنائي وأحفادي، وكم عدت إلى البيت، وعوض الدمع في عيني، يقف الدم، نعم أنني من الذين يبكون دما، فالحياة قاسية عليّ وعلى من حالهم مثل حالي وهم كثر، أنظر حولك وسترى ما اقصده”.

الحياة بمرورها القاسي، لم تترك الكثير من النساء دون طعنة حادة، تصيب القلب مباشرة، وها هي الصبية ليلى بنت الـ20 ربيعا، واحدة منهن، إنها نموذج قائم بذاته ومتجسد للبؤس الذي تحمله في قلبها، كما بضاعتها البسيطة التي تفردها لتعتاش منها “الدبس، خيوط من الباذنجان المجفف والبامية أيضا”.

ليلى التي كانت في الصف التاسع عندما اضطرتها الحياة لأن تُغير كل عالمها الذي ألفته وأحبته وعاشت في كنفه بأمان رغم الفقر الذي كان يُدارى بمزيد من العاطفة بينها وبين أخوتها البنات: “نحن سبع بنات لأب عاجز وأم أنهكها السل والديسك، وبما أنني الأكبر بين أخوتي، كان لا بد لي ولأختي الثانية في ترتيب الأبناء، من التضحية بالدراسة من أجل لقمة العيش”.

أيضا تنزل ليلى وأختها قبل أن يصيح الديك إلى مركز المدينة، علها تبيع بضاعتها، وتعود إلى البيت الذي لا تشعر بالأمان إلا بين حيطانه التي التهمت الرطوبة دهانها: “أعمل جاهدة ليتثنى لي العودة باكرا إلى البيت، فأنا وأختي نتعرض للعديد من المواقف المؤلمة، سواء من بعض الشباب الحمقى، أو من تلك الدورية التي تترك حيتان السوق رغم أسعار بضاعتهم المجنونة، وتجيء على بضاعتنا الفقيرة كما ترى، وكم من مرة عدت خالية الوفاض من المال ومن علب الدبس التي تمت مصادرتها بحجة عدم وجود رخصة، وكأنني أبيع ذهبا لا دبسا نصنعه بأيدينا، وهو وحسب مواصفات الجودة والنظافة، لا يقارن بالسكر الذائب الذي يتم تلوينه بالأصباغ وبيعه للناس على أنه دبس في المحال الفخمة”.

ليلى أيضا لا ينتهي يوم عملها بعد العودة إلى البيت، فهناك أخوتها الصغار، اللواتي عليها أن تُشرف على دراستهن وتأمين مستلزماتهن؛ المأساة أن شابة في مقتبل العمر شاخت قبل أوانها، هي بدورها أيضا تمنت الموت لترتاح: “تعبت من هذا الحال، وروحي التي حلمت بالجامعة وأيامها التي يُقال إنها أجمل سنين يحيياها المرء في حياته، صارت كخرقة مثقوبة أحاول كل يوم أن أرتي فيها فتقا جديدا، لكنني لم أفلح بهذا”.

أخت ليلى اكتفت بالنظر، إلا أنها قالت جملتها الوحيدة قبل أن تبتعد عن المكان: أستاذ هل ما ستكتبه سيغير أي شيء في حياتنا؟ هل سنعود إلى الدراسة ونحظى بقسط من الراحة، أم أن العذاب وشماً نسيه الزمان فوق جباهنا؟

عسى ذلك، قلت لها، لكنها لم تتنظر لتسمع بقية الكلام.

هاذان مثالان عن الحياة التي يحياها الكثير من السوريين، بعد أن استوطن الفقر والحزن دواخلهم، محطمة مرة واحدة وإلى الأبد، شعلة الأمل في نفوسهم وقلوبهم، والحلم بغدٍ مختلف، لا يبدو أن صالح للاستهلاك البشري، لأنه وهم، كما الحياة التي نحياها في ظل الحرب وتغول حيتان المال والسماسرة، على حساب لقمة عيش تلك العائلة المبتلية بمصيبة، أو تلك العائلة التي حالها من حال بعضها، لكن ما يقهر ويزيد الطعنة حدة وألما، هو تلك الأمنية التي تمنتها كل من الخمسينية أم صالح والعشرينية ليلى، أمنية الموت، الشيء الوحيد الذي سيريحهما من البلاء والتعب حد الهلاك، الذي يحيون بين حباله، مثلهم مثل الكثير من الناس، الذين نرى للعديد منهم وهم يكلمون أنفسهم ويضربون كفا بكف من الحسرة والخذلان واليأس من “بكرا” الذي يدركون بحدسهم أنه لن يكون افضل حالا من اليوم.

ملاحظة أخيرة… أم صالح وليلى رفضوا قطعا التقاط أي صورة.. لا يطمحان لأي شهرة في الحقيقة..  والصورة المستخدمة في المادة هي صورة أرشيفية.

البعث ميديا || تمّام علي بركات