مساحة حرة

عدوّ مقنّع!

ماذا لو اختفى الإنترنت من حياتنا فجأة.. ماذا لو ابتعدت عن عالمك الافتراضي، وصخبه الصامت الذي يغريك بكثرته الجوفاء وبعلاقاته المزيفة وهو إنما يعزلك عن العالم ويعزز وحدتك..

ماذا لو لملمت البقية المتبقية منك وعدت لحياتك القديمة، ولطقوسك الخاصة، ولذاتك الحقيقية، هل تمتلك القدرة على التخيل أو حتى على التنفيذ؟؟..

المسألة هنا هذا الاستهلاك الجائر والاجتياح الخطير الذي يمارسه علينا العالم الرقمي من اللحظة التي نفارق فيها النوم وحتى العودة إليه، وحتى انشغالنا به خلال النوم أيضاً، في غفلة أننا ابتعدنا عن الواقع وبتنا أسرى لعالم افتراضي استبدّ بنا وخطفنا من أنفسنا وممن هم حولنا وبأمس الحاجة إلينا، تحت ستار الانشغال المزيف والتسويف والتأجيل اللامتناهي.

تعاني أغلب الأسر في أيامنا هذه غربة وعزلة اجتماعية مفروضة حتى داخل البيت نفسه، ورغم عدم وجود عوازل فعلية ملموسة، إلا أن هناك عوالم من العزلة بين أفراد العائلة الواحدة فرضتها شاشات مختلفة الأحجام، تفرض إيقاعها المقيت تحت وطأة الاستسلام الإرادي، واللاإرادي لها، وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه جلسات الألفة والبوح الدافئة، تأتي هذه العوالم الشقية لتقضي عليها كلياً، معلنة رحيل كل جميل في حياتنا.

المسألة أن الحب بات يبدأ بكلمة رمادية مختبئة ضائعة بين الشك واليقين، ويعيش مسراته وأوجاعه وخيباته وراء حروف يقتلها الصمت والانتظار، وينتهي تحت ستار أحاسيس فقدت شغفها الحقيقي حين جفت ينابيعها وتلبدت وتاهت في دهاليز الازدحام العاطفي، مشاعرنا باتت ضغطات لأزرار جامدة نسلمها دفة التعبير عما يعترينا من أحاسيس دون قدرة على المواجهة، فتلونت كلماتنا بلون واحد باهت لا يملك القدرة على صبغ حروفها بألوانها الحقيقية الدافئة، ويعجز أن يعطيها معناها الحقيقي الذي قد يكون محملا بأسمى أنواع المشاعر التي تتصاغر الكلمة الباردة عن التعبير عنها.

بتنا في زمن المشاعر الافتراضية الالكترونية يكون فيه وصل أحبائنا وأرحامنا وأصدقائنا بكلمة مكتوبة وينتهي بكلمة، وحتى عزاءاتنا باتت تكفيها عبارة من الحزن لتفي بالغرض.

لعل الأمر يستدعي منا الوقوف أمام أنفسنا والتفكير مطولاً كي نعي إلى أي مدى استطاعت هذه العوالم المبهرة والمتملكة أن تسيطر علينا وعلى أدق تفاصيل حياتنا، وهل ستتسع مساحة السيطرة أكثر، وما هو الهامش الذي سيتبقى لنا، هذا في حال تبقّى ولم تجردنا منه؟

المسألة هنا أنه في الوقت الذي لا بدّ لنا من الاعتراف بأن هذا العالم الذي لا حدود لإمكانياته ولا قيود لقدراته أصبح واقعاً مفروضاً، لا يمكننا تجاهله والنأي بأنفسنا بعيداً عنه، وإلا أصبحنا خارج معركة الحياة والعصر، إلا أنه علينا أن ندرك وبدقة الحدود الملزمة التي علينا أن نسمح له بها بدخول عالمنا، قبل أن نستحيل شاشة بشرية دونها نضيع وتضيع حياتنا.

 

هديل فيزو