لماذا يريدون المضائق؟
بات واضحاً أن السعي الأميركي لاستفزاز إيران في الخليج، غايته الوصول إلى حالة من التوتر تؤدّي في النتيجة إلى جعل العالم يشعر بالقلق على حرية الملاحة في البحار، وهذا الأمر بدأت تداعياته تظهر تدريجياً من خلال ارتفاع أسعار التأمين على النقل البحري، بدعوى ارتفاع مخاطر التأمين، حيث رفعت شركات التأمين وأغلبها مملوك للغرب أسعار التأمين على السفن والناقلات، الأمر الذي سيؤدّي تدريجياً إلى ارتفاع أسعار البضائع وخاصة النفطية منها.
وبالنظر إلى الاستفزازات الأمريكية حول العالم، نلاحظ أن واشنطن تعمل على توتير الأجواء في البحار التي تشكل مجالاً حيوياً لطرق التجارة الدولية، والأمر لا يقتصر فقط على مضيقي هرمز وباب المندب، بل يتعدّاه إلى استفزاز روسيا في بحر آزوف عبر مضيق كيرتش مستخدمة أوكرانيا أداة لذلك، وكذلك في بحر الشمال الذي يعتبر ممراً استراتيجياً للأسطول الروسي، حيث عمل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة على استفزاز روسيا هناك لمنعها من فرض سيطرتها عليه، كما عملت على إثارة التوتر في بحر الصين الجنوبي الذي يشكّل مجالاً حيوياً واستراتيجياً للصين.
إذن، هناك من يعمل على جعل مسألة النقل البحري في العالم كله محفوفة بالمخاطر، ويثير بين الفينة والأخرى مشكلات لها علاقة بحرية الملاحة، محاولاً بطريقة أو بأخرى القفز فوق قانون البحار الذي تم التوقيع عليه في أواسط القرن الماضي.
وإذا علمنا أن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب عملت منذ وصولها إلى البيت الأبيض، على شنّ حروب تجارية على الاقتصادات المنافسة في العالم وخاصة الاقتصاد الصيني، فإن عملية التلاعب بحرية الملاحة حول العالم، الغاية منها إرغام هذه الدول على دفع تكاليف إضافية لحماية تجارتها البحرية، وخاصة أن هذه المضائق، وتحديداً مضيقي هرمز وباب المندب وقناة السويس، تشكل ممرّاً إجبارياً للقسم الأكبر من تجارة الصين مع الدول الواقعة ضمن مبادرة الحزام والطريق حيث بلغ حجمها أكثر من 6 تريليونات دولار خلال الفترة من 2013 إلى 2018، ومن هنا ثارت ثائرة واشنطن عندما اتفقت الصين وروسيا على إنشاء قناة بحرية تربط بينهما في القطب المتجمّد الشمالي بالاستفادة من ذوبان الجليد هناك، كما أن تفكير الصين باختصار المسافة فيما يخص نقل البضائع الصينية إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، من خلال استبدال قناة السويس بميناء بندر عباس الإيراني في الخليج، ومنه يتم نقل البضائع برّاً إلى بحر قزوين ثم إلى روسيا حيث تتكفل السكك الحديدية بنقلها إلى أوروبا، أقلق واشنطن التي تجد نفسها في حرب تجارية مع الدول الثلاث، حيث سيؤمّن هذا الطريق عائدات ضخمة لكل من إيران وروسيا، فضلاً عن تخفيف تكاليف نقل البضائع الصينية عبر قناة السويس، ومن هنا أيّ توتر في الخليج سيمنع الصين من اعتماد هذا الطريق، وبالتالي حرمان روسيا وإيران من هذه العائدات.
لذلك بعد أن اضطرّت إيران لتسيير ناقلة نفطها باتجاه أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الإفريقية إلى الأطلسي فالبحر المتوسط، ما كان لدى واشنطن إلا الإيعاز لقوات مشاة البحرية البريطانية بقرصنة هذه الناقلة، الأمر الذي يؤكد أن القضية لها علاقة مباشرة فقط بالسيطرة على ممرات التجارة البحرية، ولا علاقة لها حقيقة بمسألة العقوبات التي تذرّعت بها لندن لتبرير القرصنة.
باختصار، كل التوترات التي تثيرها واشنطن في المضائق والممرات البحرية، تتصل بالدرجة الأولى بالحرب التجارية التي يعمل ترامب من خلالها على الحدّ من النفوذ التجاري الصيني، وحتى الحرب الظالمة التي تشنّها السعودية والإمارات على اليمن منذ نحو خمس سنوات بإيعاز أمريكي، تهدف في الجزء الأمريكي منها إلى السيطرة على مضيق باب المندب وتهديد أهم خط ملاحي بحري بالنسبة إلى الصين في العالم، وخاصة أنها تتربّع الآن على عرش التجارة العالمية بعد أن أزاحت واشنطن عن هذه المكانة.
طلال ياسر الزعبي