بين بيروت وإسطنبول.. “عروس” فاقدة الهوية
وسط تجاهل للهوية العربية وقدرتها على خلق وتجديد خصوصيتها وطابعها الفكري والثقافي والمجتمعي، وفي الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه للتشبث بثقافتنا وهويتنا والثقة بامتلاكها مقومات التجدد والعطاء؛ تطلّ علينا القنوات الفضائية “العربية” بأعمال وبرامج أجنبية معرّبة، لا تكتفي باستنساخها حرفياً والترويج لها، متجاهلة اختلاف الثقافات وطبيعة المجتمعات وبنيتها، بل إنها توجه المتلقي بشكل متعمد لتبني قيم وأفكار ﻏﺮيبة عن واقعه، وتدفعه للتخلي عن كل ما يشبهه ويعبّر عنه ويمثّله، في ظلّ تكريس ممنهج لفكر الآخر وثقافته وحتى أسلوب حياته، فيما يشبه الانزياح التام له، ما ينبىء بحالة ﻣﻦ اﻟﻌﺠﺰ اﻟﻔﻜﺮي واﻟﻔﻨﻲ واﻹﺑﺪاﻋﻲ.
لم يتوقف هذا الاستنساخ والتقليد عند البرامج الترفيهية التي قد يغض الطرف عنها، كون تأثيرها يقتصر على التسلية والترفيه، غالباً، بل إن التمادي بالأمر وصل لدرجة استنساخ مسلسل كامل بعينه، فكراً وثقافة ونصاً وحواراً وإخراجاً وتصويراً، بل وحتى ردات فعل الممثلين، في تقمّص واضح لشخصية الغير وتنحية الشخصية العربية بفكرها وثقافتها وبكل قدراتها وانفعالاتها وموهبتها، كل ذلك تحت بند سيطرة النسخة المعربة، الأمر الذي يستدعي الوقوف عنده مطولاً، وإعادة النظر فيه ملياً، فهل وصل الإفلاس الفكري والثقافي إلى النقطة التي تجعل المتلقي أسيراً لفكر الآخر وثقافته وهويته، فيما يشبه الاعتراف الضمني بفقد القدرة على خلق ما يمثله ويعبر عن هويته وثقافته وحضارته؟؟..
يُعرض على بعض الشاشات العربية حالياً “عروس بيروت”، المسلسل العربي المشترك الذي يمثل فيه فنانون من لبنان وسورية وتونس، والذي يمثل النسخة المعربة من المسلسل التركي “عروس إسطنبول”، وهو من بطولة ظافر العابدين وكارمن بصيص، إضافة لمشاركة الممثلين السوريين، ضحى الدبس ومرام علي ولينا حوارنة ومحمد الأحمد وعلاء الزعبي وأيمن عبد السلام وغيرهم، المسلسل هو نسخة طبق الأصل عن “عروس إسطنبول”، والمسألة هنا ليست الفرق الشاسع بين النسختين، وليست رداءة النسخة العربية أمام الأصلية، بل إن الإشكالية تكمن بفكرة النسخ بحد ذاتها والإساءة الفكرية التي تنطوي تحتها كونها تقوم على السرقة والتبعية والتقليد الأعمى وتجميد العقل والقدرات.
العمل المعرّب تسيطر عليه بصمة الأتراك وطابعهم في جميع حركات الممثلين وأدائهم وحواراتهم، ما يلغي هوية الفنانين الإبداعية الخاصة ومقدراتهم الحقيقية في الأداء، ويحدّ من قدرتهم على التصرف والارتجال، والغريب قبول ممثلين لهم تاريخهم الخاص والمميز في الساحة الفنية بمثل هذا النوع من الأدوار التي لا تشكل إضافة بقدر ما تمثل تراجعاً وعودة إلى الوراء، أما الأمر الآخر فهو الانسياق المبالغ فيه خلف الدراما التركية، في الترجمة والدوبلاج لنصل إلى الاقتباس الكامل والحرفي، فبعد المقاطعة التي أعلنتها بعض القنوات العربية مع الأعمال التركية بسبب تردي العلاقات السياسية، ها هي تعود من جديد لتحاول استلاب عقل المشاهد العربي بطريقة المواربة لتؤكد، مرة أخرى، مدى سيطرتها على الدراما التلفزيونية، وخاصة في الساحة العربية.
ووسط حالة الاستنساخ والاقتباس غير المبررة التي تمر بها العديد من المسلسلات السورية اللبنانية المشتركة في الفترة الأخيرة من مسلسل “لو”، بطولة عابد فهد ونادين نجيم ويوسف الخال، المقتبس من الفيلم الأجنبي”unfaithful”، إلى مسلسل “تشيللو” لتيم حسن ونادين نجيم، المقتبس من الفيلم الأجنبي “Indecent Proposal”، وغيرها من الأعمال التي تقتصر على اقتباس الفكرة، يأتي “عروس بيروت” مختلفاً هذه المرة عن النسخ العربية المقتبسة، حيث نُقلت الأحداث حرفيّاً من المسلسل التركي “عروس إسطنبول”، دون أي تغيير، ودون أي هوية، وسط الحديث عن تكرار هذه التجربة وتعميمها.
المسألة أن الدراما العربية، والسورية على وجه الخصوص، التي استطاعت أن تثبت نفسها ووجودها، وأن تعبّر عن ثقافتها وواقعها وهويتها الخاصة وأن تكون محل منافسة حقيقية، من غير المسموح لها الآن، وحتى في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها، أن تعود للوراء، ما يفرض عليها تنحية هذا النوع من الأعمال الفنية المستنسخة جانباً، كونها تلغي ثقافات وتحد من إمكانيات، وتساهم في ﺗﻜﺮﻳﺲ عقدة ﺗﻔﻮق اﻷﺟﻨﺒﻲ وتتركه ﻳﺘﺴﻠﻞ ﺧﻠﺴﺔ وﻋﻼﻧﻴﺔ إلى تفاصيل ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ وﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ، فخصوصية وهوية المجتمعات هي الروح في أي عمل إبداعي وفني، دون هذه الروح يفقد العمل جدواه ومعناه وطابعه الفكري الذي يميزه ويمنحه القدرة على المنافسة والديمومة.
هديل فيزو