شوربة عدس وبطاطا مسلوقة وضحك
واحدة من أغرب الأمنيات التي سمعتها في حياتي، كانت من رفيق السلاح أثناء تأدية خدمتي الإلزامية.
الجميع صار يعرف أن العشاء في الجيش في حالات السلم، كان “شوربة عدس”، وبطاطا مسلوقة مع رغيف خبز وربما حبة بندورة.
وفي واحدة من الجلسات النادرة التي تحدث في دورات الصاعقة، دارت الأمنيات بين الشباب الذين خلدوا إلى فراشهم في المهجع الرابع، بعد أن تم إطفاء النور باكرا ذاك اليوم، فالضابط المناوب يومها كان طيب القلب، وأرسلنا للنوم باكرا بعد العشاء، لتبدأ أعقاب السجائر المشتعلة، تُوقد كشموع في كنيسة رويدا رويدا، الواحدة تلو الأخرى، ومعها بدأ حديث الشجون و الأمنيات، كل يتمنى ما يحب، ذاك ان يكون مع حبيبته في بار بباب توما، وذاك أن يسافر إلى قريته فموسم زراعة التبغ بات قريبا، وهم كأسرة يعتمدون على هذه النبتة ليتدبرون أمورهم في الحياة، وهناك من تمنى لو أنه يعود طفلا، وغيرها من الأمنيات المألوف منها والغريب والعجائبي والمجنون، إلا أن أمنية أثارت ضحك الجميع حتى النائم الذي صحا على الضحك وانخرط فيه دون أن يعلم لماذا حتى!
لم يكن ضحكا، ما حدث هو أن هستيرية اجتاحت سكان المهجع الرابع الذين ذهبوا إلى النوم باكرا في ذلك اليوم، صوت الضحك كان عاليا، حتى استيقظ المدربون، وتم عقابنا بالدعكلة عراة الصدر في شباط وعلى الزفت.
كانت قطرة المطر الباردة التي يحملها الهواء، تلسع جلودنا كالسياط، وكنا نضحك حتى ونحن في خضم العقوبة، فأمنية “محمد” يومها كانت مضحكة جدا.
محمد من أسرة ريفية بسيطة، هي المرة الأولى التي يبتعد فيها عن عائلته، ورغم أن كل إجازة كان يأخذها خلال فترة الخدمة، كانت مضنية له على حداثة سنه، بسبب العمل الشاق الذي كان ينتظره على مفرق كل إجازة، حتى أنه يوما تمنى لو أن وقت الإجازة لا يأتي، لقد كان مرهقا ومتعبا وفي قلبه ثِقل قديم لم يبح به لأحد.
بين الامنيات التي كانت تتوهج أوجه أصحابها على وهج سجائرهم، أشرق وجه محمد وهو يخبرنا أنه يتمنى أن يكون في قريته الباردة صيفا، فكيف بها في الشتاء، يجلس إلى جانب “صوبية الحطب”، ويأكل بطاطا مسلوقة وشوربة عدس، تسكبها له والدته من الوعاء الذي تطهو فيه الشوربة والبطاطا معا على “صوبيا الحطب”.
حينها ضحكنا لأننا كنا قد أُتخمنا بل وأصابت بعضنا فوبية “شوربة العدس والبطاطا المسلوقة”، وإذا طُبخت في البيت كنت شخصيا فترتها، لا أطيق رائحتها، سنتان ونصف نفس العشاء، بطاطا باردة وحساء بارد في أوعية من الألمنيوم لا روح فيها، وحفنة ملح فوق رغيف خبز بائت، لكنني اليوم أذكر تلك القصة المضحكة المُبكية، وأنا اكتشف كم كانت أمنية محمد صادقة وحقيقية، والطعام أو نوعه، هو أخر ما يعني فيها، بل الحالة نفسها، حيث أمه تحنو عليه بالطعام ودفء العالم يشع حوله، في برد ذاك الشتاء الموحش والقارس، الذي ذكرّه برودته بدفء أمه فتمنى ما تمنى، وضحكنا؛ ضحكنا ربما حتى تحسس بعضنا قطرات مالحة، تمشي فوق وجنته، قبل أن تستقر على شفتيه ويشربها على ملوحتها كي لا ينكشف أنه يبكي، فالرجال عادة لا يبكون، وهذه أكذوبة لا أدري من “البني آدم” الذي روجها؟
تمّام علي بركات