قبل ” قيصر” و أمريكا..هل نقصّ الأصابع التي عبثت بيننا بـ” سر الأمن الغذائي السوري” ؟؟
بين الخطأ والارتكاب المبيّت كدنا نخسر الحقل والبيدر..وهذه هي الحكاية:
بقدر ما هو مفرح إلّا أنه مثير للأسف ..ذلك التقرير الذي صادفناه على موقع قناة DW الألمانية بعنوان ” القمح السوري ينقذ المحصول الأميركي” ويتحدّث عن محاولات كثيرة قام بها علماء أمريكيون للعثور على حل يُنقذ المحاصيل الزراعية، وخاصة القمح، من تأثير ارتفاع درجات الحرارة وتوابعه، إلا أنهم عجزوا عن الوصول إلى نتيجة حتى اكتشفوا بذور لنبات من سورية حققت هدفهم.
فقد اكتشف الباحثون في جامعة كنساس الأمريكية أن البذور السورية “Aegilops tauschii أو “الدوسر”، هي الوحيدة التي لم تصبها الآفات والحشرات من بين 20 ألف نوع آخر من النباتات تم تدميرها بسبب تلك الآفات، في تجربة أجريت بحقل مغطى بولاية كنساس الأمريكية.
والواقع أن جرعة كبيرة من الأسف تعترينا ونحن نثير هذا الموضوع، على إيقاع الضجيج الذي يثيره دخول قانون ” قيصر” حيز التطبيق..وبالتزامن مع الأنباء المتدفقة نحونا من الشمال والتي تتحدّث عن إحراق الأميركي لمحاصيل القمح السوري، بكل ما في الإجراء من رعونة وتشفّ ..لكن من عادة القراصنة أن يلجؤوا إلى مثل هذه الإجراءات بلا تردد.
لكن ثمة ما هو أصعب في الواقع من كل ذلك، وبخصوص الإدارة الخاطئة – التي تشبه الارتكاب – للصنف التقليدي السوري الذي كان عماد إنتاج سورية من هذه المادة، وسر صمودها في وجه أعتى محاولات التجويع..والموضوع أثرناه من حوالي 14 عاماً في جريدة البعث..و احدث ما أحدثه حينها من ضجيج..لكن شيئاً لم يتغيّر على أرض الواقع.
وقد يكون من المفيد في سياق مقالنا هذا أن نعرج على بعض الإجراءات ” الموجعة” التي جرت حينها..وهي سبب أزمة إنتاج القمح السوري حالياً ومنذ سنوات – حتى ما قبل الحرب – لأن النتائج تتماهي بين الخطأ والعمد، حيث لن يكون مهماً البحث في النيّات.
فلطالما كان القمح السوري ميزة مطلقة وليست نسبية، أي القمح القاسي المقاوم لكل الأمراض ولظروف الجفاف أيضاً ، وعندما أنتجت سورية 5 مليون طن ..كان هذا الصنف ” القاسي” هو الرائج..وهو صنف مرغوب عالمياً للصناعات الغذائية..وهو أغلى ثمناً من القمح الطري .
في العام 2007 أو 2008 اتخذت الحكومة آنذاك قراراً خاطئاً يقضي بزراعة 70 أو 80 % من المساحات المقررة للمحصول بالقمح الطري على حساب القمح السوري القاسي، والقرار كان مثار انتقاد في جريدة البعث أيضاً، لكن القرار مرّ بهدوء، وبدأت سلسلة الأمراض، إذ مباشرة ظهر مرض الصدأ الأصفر والحبة السوداء وتسبب بمشكلة خطيرة بين مؤسسة الحبوب والفلاحين عندما أحجمت الأولى عن استلام المحصول المصاب بمرض جديد غير مسبوق..لكن الإصابات لم تغيّر قرار الحكومة بل تم الاستمرار بالخطأ..وصادف حينها أن حصلت أزمة عالمية في إنتاج القمح..فاستفرد التجار بالموسم، وراحت سورية تفكّر بالاستيراد لأول مرة منذ سنين وسنين.
قرار الحكومة آنذاك بني على إجراءات سابقة عمدت إليها وزارة الزراعة، بعد توطين أصناف جديدة من الأقماح الطريّة على حساب القمح القاسي السوري..بالتالي كان يجب أن تزرع جلّ المساحات بالأصناف الجديدة، والتسبب بـ “هزيمة” الصنف السوري الأصيل” وقد حصل.
الأصناف الجديدة كانت ” الخبطة” التي حاولت هيئة البحوث العلمية الزراعية إحداثها آنذاك، كهيئة جديدة محدثة خرجت إلى الضوء ولا بدّ من إنجاز يسلط عليها الضوء..دون أن يعلم أحد أنها كانت الظل الخفي لـ ” إيكاردا” المركز البحثي التابع للمجموعة الاستشارية الدولية المتوضع غربي حلب.
ومن المهم هنا أن نلفت إلى أنه، عندما أنتجت سورية 5 مليون طن لم يكن لدينا هيئة بحوث زراعية..بل مجرد محطة بحوث في منطقة ” قرحتا” بريف دمشق ..أي لم يجرِ العبث بالأصناف كما فعلت هيئة البحوث..
ومنذ أن دخلت هيئة البحوث و إيكاردا على الخط تراجعت عائدات سورية من القمح بشكل ملحوظ رغم أن الادعاء كان أن الأصناف الجديدة هي أكثر إنتاجيةً.
ونؤكد أن ما نسرده من معطيات دقيق بالمطلق، وهو ما تؤكده نشرات ” الفاو” التي أشارت إلى أن الإنتاجية في وحدة المساحة كانت في سورية هي الأكبر على مستوى حوض البحر الأبيض المتوسط ..من القمح القاسي..فتراجعت إلى مراتب متأخرة بعد إدخال الأصناف الجديدة ” المدسوسة” من قبل إيكاردا..
سبب هذا التحول هو أن إيكاردا كان يبيع الأصناف إلى وزارة الزراعة في سورية ..بما أن سورية ليس لديها بنك وراثي للمبادلة كما يقتضي بروتوكول التعاون المشترك.
وعلمنا لاحقاً أن “إيكاردا” كان يكافئ القائمين على وزارة الزراعة والبحوث الزراعية حينها ..على شكل بدلات ” أيام حقليّة” للوزير ومدير هيئة البحوث..” يومين في الشهر على الأقل بـ 500 دولار عن كل يوم”.
وقد أشار تقرير قناة DW إلى أنه “وبحسب موقع منظمة أورجانك كونسيومر الأمريكية، فقد تم العثور على بذور النبات السوري على بعد 25 كيلومتر غربي مدينة حلب، على يد فريق بحثي تابع لمكتب البحوث الدولي للزراعة التابع لمنظمة الأمم المتحدة”.
النتيجة أننا خسرنا أهم ميزة زراعية مطلقة كانت تنعم بها سورية.. وكادت سورية تجوع..تراجع العائد وارتفعت تكاليف الإنتاج لجهة الوقاية ومكافحة الأمراض..فلم يكن الفلاح السوري يسمع بالأوبئة التي تصيب محصوله سوى ” السونة” التي كانت تتكفل مديرية الوقاية في وزارة الزراعة بمكافحتها كتقليد سنوي.
الآن قد يكون من بالغ الأهمية..التوجه نحو العودة إلى الصنف السوري القاسي المقاوم للأمراضـ، والمناسب للبيئة المحلية..فبعد أن ” غادرنا” بات إنتاج الـ 5 مليون طن، من الذكريات والأمجاد التي نتغنى بها ولي إلا..فللحقول قول آخر أصدق إنباءً من كل الكتب.
ناظم عيد