الساعات البغدادية.. أعجوبة علمية ظنّها الناس سحراً
يُراد بالساعات الروحانية تلك التي يحرّكها شيء خفي يشبه الروح في تحريك الأجسام بحسب رأي كثير من الناس، والساعات الروحانية فرع من فروع علم (البنكام) وهو علم صناعة الساعات لمعرفة الوقت.
وقد برع العرب في هذه الصناعة فصنعوا (الساعات العربية الروحانية) وألّف (بديع الزمان، أو المعز بن اسماعيل بن الرزاز الجزري، ونسبه إلى جزيرة ابن عمر) كتاب (الآلات الروحاينة) في ذلك الوقت، وقد طبع قسماً منه بعض المستشرقين، ألّفه لقرة أرسلان التركي الأرتقي ملك ماردين (658- 691) وجعله ست أنواع، الأول في الساعات، والثاني في الأواني, والثالث في الآلات الزامرة، والرابع في آلات إخراج الماء من المواقع العميقة، والخامس في الأباريق والطسون، والسادس في صور وأشكال تختص بذلك.
ومن أشهر الساعات الروحانية المائية، الساعة التي وصفها ابن جبير الرحالة الأندلسي، وكانت في مسجد دمشق في القرن السادس الهجري وما بعده، رأى ابن جبير هذه الساعة العجيبة سنة (579ه- 1183م) وقد أنشئت بعدها ببغداد سنة (623ه- 1235م) ساعة مثلها قبالة باب المدرسة المستنصرية التي لاتزال بفخامة بنائها تعد فخراً لفن العمارة العربي، يقول فيها ذو الملكتين الناثر الشاعر (عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني):
ما مثل الفلك العظيم لمبصر
في الأرض قبل إيالة المستنصر
هذا بناء معرب عن قدرة
رفعت قواعده بفعل مطهر
حسدت به الأرض السماء ولم يزل
حسد الفضائل في طباع العنصر
وقد اشتهرت جماعات بحرفة هذه الساعات فعرفوا بـ(الساعاتيين) والواحد (ساعاتي)، وعرف كل من أبنائهم بـ(ابن الساعاتي)، منهم ابن الساعاتي الشاعر المقتدر المشهور (بهاء الدين علي بن رستم) وأخوه الحكيم الطبيب (فخر الدين رضوان رستم) وكان يتولى تدبير الساعات التي كانت تجاه المدرسة المستنصرية وابنه (مظفر الدين احمد بن علي المعروف بابن الساعاتي) وحفيده (محمد بن أحمد بن الساعاتي)، و(أبو عمرو عثمان برمكي السعدي)، قال جمال الدين بن الصابوني: «وهو كثير المحفوظ، وله اليد الطولى في عمل الساعات ومعرفة الاصطرلاب».
وممن عرف في صناعة (البنكام) (تقي الدين محمد) المعروف بـ(الراصد) المتوفي سنة 993 هـ فله كتاب (الطرق السَّنية في الآلات الروحانية) وكتاب (الكواكب الدريّة في البنكامات الدورية)، ومن الكتاب الأخير نسخة محفوظة بدار الكتب الوطنية في باريس وقال كشاجم الأديب الشاعر يصف (البنكام):
روح من الماء في جسم من الصفر
مؤتلف بلطيف الحس والنظر
تنشاله حركات في أسافله
كأنها حركات الماء في الشجر
ولساعات بغداد شواهد تاريخية في العصر العباسي، عندما هرب الروم من حضرة الخليفة هارون الرشيد، لما دقت الساعة التي كانت في ديوان الخليفة، وتلك معجزة الصناعة في بغداد.
د.رحيم هادي الشمخي