ثقافة وفن

حكاية لوحة..  “كفر جنة”.. حب الأرض وتجليات الذاكرة

تعد لوحة “كفر جنة” من أشهر لوحات الفنان التشكيلي السوري الراحل فاتح المدرس، رسمها بداية عام 1952 بقياس (50 – 70 ) سم بألوان زيتية على قماش عادي، عرضَها في معرض الخريف الثاني الذي كان يضم فناني سورية الأوائل، وحاز بلوحته على الجائزة الأولى، لتصبح من أهم مقتنيات المتحف الوطني بدمشق.

الحكاية

عايش فاتح ظلم الإقطاعيين، فكره الإقطاع وتعاطف مع الفلاحين، وأحبّ الأرض، وبقيت صورة شقاء أمه ماثلة في ذهنه طوال عمره، وعبَّر عنها في صورة المرأة المعذبة التي ظهرت في أغلب أعماله الفنية، وانتشرت في العالم كله.

يقول التشكيلي السوري محمود مكي عن اللوحة: تمثل “كفر جنة” منظراً ريفياً طبيعياً لما اختزنته ذاكرته عن طفولته الأولى في قريته (حريتا ) التي ولد فيها، اللوحة كمنظر تبدو عادية بألوانها وأشكالها، لكن الذي ميزها ذلك الأسلوب الفني والتقنية الجديدة التي رسمها فاتح المدرس..

تمثل اللوحة امرأة تتوسط اللوحة لا يظهر فيه شيء من معالمها التي تماهت مع مساحات الألوان، حاملة على رأسها طبق القش منطلقة إلى عملها في الحقل المجاور لتعمل وتساعد زوجها في الحياة، هي عبارة عن شكل إنساني لا نكاد نرى أي معالم للوجه والجسد اللذين امتزجا مع ضربات الريشة العريضة السريعة والنزقة مع باقي مساحات اللون، وتأثيرات ضوء الشمس فيها، نرى إلى طرف اللوحة في الجانب اليميني منها شجرة ضخمة باسقة ترتفع إلى عنان السماء بألوانها الخضراء وقد أخذ شكلها الجميل أكبر مساحة من اللوحة تنغرس جذورها تحت الأرض وهي تنطلق بجذوعها بقوة إلى الفضاء لتتقارب مع نور الشمس في وحدة تلاحميه جميلة بينهما في آخر خط الأفق البعيد عنها وضمن ضربات ريشة سريعة إلى حد سواء وتتماهى مع باقي المساحات اللونية الأخرى .. نرى في نهاية اللوحة آثار امرأة أخرى مسرعة الخطا وكأنها تلاحق المرأة الأولى التي توازي خط جذع الشجرة وكأنها منطلقة معها للأعلى، كما نرى في اللوحة مساحة واسعة للسماء ضمن خطوط لونية طولية بألوان مشتقات الأزرق بجماله اللوني، لتنطلق مع الشجرة والمرأة إلى الأعلى في تحدّ لقوة الجاذبية الأرضية.

وعن أسلوب وتقنيات اللوحة يقول مكي: اللوحة اشتغلها فاتح المدرس بتقنيات المدرسة الواقعية التأثيرية ومزجها بجمالية توافقية خاصة مع مفاهيم المدرسة التجريدية الحديثة التي سادت وانتشرت في الفن الحديث العالمي في بداية الخمسينات من القرن العشرين، وضمن رؤيته الفكرية المعبّرة جداً بوضوح الفكرة مع الرؤية الجمالية الجديدة في الفن التشكيلي السوري، وهذا ما ظهر واضحاً أيضاً من خلال اللمسات اللونية الكثيفة التي تظهر في المساحات اللونية الكبيرة، كما أن الحالة الانفعالية التي رسم بها الفنان فاتح المدرس هذه اللوحة الرائعة أكسبت اللوحة بتصميمها الكلي الحالة المأساوية التي تعيشها المرأة الريفية المقيدة بقيود الرجولية الذكرية..

تعتبر لوحة “كفر جنة” تحفة فنية، مهّدت الدرب لدخول أساليب الفن الحديث في الذائقة البصرية السورية.