ثقافة وفن

بانتظار غودو

قد يأتي الكاريكاتور الكلامي (النكتة) عاملاً مساعداً في طريقة التعاطي مع الوقائع كردّةِ فعل على استفسار أو موقف. فالوزير البريطاني السمين تشرشل قال لبرناردشو النحيف: من يراك يظن أن بريطانيا تعاني أزمة غذاء..؟! فردَّ “برناردشو” عليه: ومن يراك يعرف سبب الأزمة.
ربما كان الجواب توصيفاً لحالة قهرية، أو تماهياً مع القول: “سأجعل الشمس تشرق من الغرب” مرة قالها الطاغية كاليجولا ومضى..!
نعم.. لقد سمعنا عن “فرض القوالب” وسمعنا آهات التشخيص البائس.. فكيف نقول عن مرض مستشر وصل إلى حد لا ينفعه الكوي “ذاك المرض”.
أما المنتشي بالحكمة نيتشه فيقول: “أبغضُ ضيقَ الأفقِ أكثر بكثيرٍ من الخَطِيْئَة.. ومن هنا، يقودنا الفضول دوماً للغوص في عمق التساؤل عن ذاك المرض..!
فهل سمعتهم عن سرير بروكست..؟
سأروي لكم تلك الميثولوجيا اليونانية التي تناسب الأزمان كافة، وأشهد أن الطبيعة متوالدة في حكمها وقصاصها.. تقول الأسطورة إنّ “بروكرست” الحداد كان يملك سريراً حديدياً، يقوم بروكست بدعوة أي مسافر يصادفه في طريقه ليستضيفه في مخطط جاهز، إذ كان يدعوه إلى النوم في ذاك السرير الحديدي المعشق بألف استفهام…!
والمفارقة أن “بروكست” كان مهووساً بقضية طول الضيف.. وكلما كان الضيف أطول من السرير، قام بروكست بقطع رجلي الرجل ليتناسب مع طول السرير، وفي حال كان أقصر من السرير، قام بمطّ جسم الرجل مطاً لا مثيل له.. دون النظر والالتفات إلى طقطقة العظام الهشة أساساً من حظ الضحية وواقعه السيئ الذي قاده إلى هنا.. يضاف إلى ذلك، الطريق الأوحد المرسوم للعبور في منطق الخط الإلزامي الإجباري.
ولكن، مهما يكن “فرض القوالب” ساري المفعول، يبقَ اندفاع “ثيسيوس” الأسطوري أيضاً مثالاً لردة الفعل والانتقام من سلوك ارتكبه بروكست ببرودة أعصاب.
ورداً على حماقاته وصلفه وعنجهيته وتعاليه، قام “ثيسيوس” بإلقاء القبض عليه ووضعه على سريره بالطريقة نفسها وقطع رأسه.
فكم من بروكست في حياتنا وفي أوساطنا الثقافية التي لم تسلم ولم تستطع أن تنأى بنفسها عن ميثولوجيا بروكست ومغامراته بل اتخذت من الأسطورة منهجاً عفناً.
على طاولة النقاش طابقان.. الأول للأقنعة المتلونة وطابق آخر يُسمى: النسف من تحت الحزام..
أحزمة متنوعة الخصال والصفات، ولا يتوانى عشاقها عن التفنن بالمسميات ولصق عناوين وزوايا براقة.
جوهر حكاية بروكست لم تنتهِ، وعلى الرغم من كل الارتباك الحاصل و”الغرغرينا” المستشرية، يستمر إخضاع الآخر للمقياس المرسوم، فأين المفر..؟
ربما كان الجواب في جعبة طاغور: “أفضل حماية للإنسان (كما الحشرة)، أن يتلون بلون محيطه.. ربما كانت هذي المقولة من بداية التشبيه إلى التلون هي نوع من الهروب والاستسلام لواقع مصاب بالعضال.
إياك أنْ تجرّب شيئاً مغايراً. فالسرير لك بالمرصاد، وإياك أن تحلم بواقع ثقافي وفنّي أفضل، فنحن لا نحب أسماء التفضيل.
سنقتحم أحلامك ونلقيك في مجاهل النسيان.. ولك الفتات.. ولنا تقاسم العناوين العريضة.
اجمعوا كتاباتكم وأشعاركم ورسومكم واطمروها هناك بعيداً عن عيون بروكست.. وتجنبوا النوم على سرير معدني حفاظاً على ما بقي من حركة فمٍ تشي ببريق ابتسامة.
للذين ينتظرون غودو، أقول لكم إنه لن يأتي.. وللذين ينتظرون “ثيسيوس”، أقول لكم، ربما يكون برفقة غودو.

 

رائد خليل