خطوات تتمشّى في البال
في حقيبة قديمة مهملة ومرمية في العليّة، نظر بطرف عينه بعد أن قام بإشعال الضوء، ليلمح حذاء رياضياً أحمر اللون وله “شواطات” لونها أبيض، لم تكن بيضاء تماماً، بل هي متشحة بشيء من الغبار الذي علق عليها بمرور الزمن، يجلس هذا الحذاء في كيس بلاستيكي، وكأنه سجين في منفردة، يبدو عليه الحزن أو هكذا تخيله فيما بعد، يقبع مهملاً هناك في العليّة، حيث توضع الأغراض التي يقل استخدامها، أو تلك التي لا نرميها كرمى لعلاقة عاطفية تجمعنا بها، واسمها بالمحكية “كراكيب”.
مرّ بالحذاء بداية دون أن يعني له الأمر شيئاً، فهو منهمك بالبحث عن حذائه الشتوي، خصوصاً وأن بورصة الأحذية مرتفعة جداً هذه الأيام، وهو يستغرب فعلاً، من له قدرة الآن أن يشتري حذاء قيمته ٨٠ ألفاً وما فوق في هذا الوقت العصيب؟ وبعد أن وجد ما بحث عنه، وأطمأن باله أن حذاءه لا زال صالحاً للاستخدام الآدمي بظروف معقولة، انصرف إلى شأنه دون أن يعي أن ذلك الحذاء الأحمر بـ “شواطاته” البيضاء، سيحيل ليلته إلى نوبة مُنوعة اللوعة، بين الحنين والغربة والقسوة أيضاً، نوبة حنين طويلة جداً كانتظار الطعنة!..
مرّت فترة الظهر الباردة جداً، حيث يكاد الهواء يتجمد في مجرى التنفس، وانقضت فترة ما بعد الظهر وهو منهمك في إصلاح سرير ابنته، كان يحاول أن يجرب فعل أي شيء آخر مختلف كلياً عما يقوم به يومياً، وكان نصيبه ثلاث ضربات على أصابعه بالكماشة التي حولها إلى مطرقة، لكن الأمر لم يفلح، اتخذ قراراً بالخروج إلى الحديقة التي يقضي فيها وقته عندما يكون وحيداً، وبعد أن ارتدى جميع ملابسه، وقف أمام المرآة وتأمل نفسه، لقد شابت لحيته، وذهب البريق من عينيه، فعاد وتمدد بكامل ثيابه فوق “الصوفا” يحدق بالسقف، دون أن يدري بالتحديد سبب ضيقه، وانقباض صدره.
وضع الطعام على المنضدة ثم رفعه، تكلم عبر الهاتف مع أحد الأصدقاء، وقرأ في كتابه المفضل، قبل أن يذهب إلى النوم.
ما حال الوسادة اليوم وكأنها محشوة حجارة، قال لنفسه، ثم حاول تغييرها وتغيير منامته كلها مساء ذلك اليوم الغريب، عله ينام، لكنه لم ينجح في ذلك، ثمة خطوات لها أصوات سلم موسيقي درجاته معطرة بهال القهوة، تروح وتجيء في خاطره، فيرتعش جسده بأكمله لتلك الذكرى التي عادت وكأنها كانت في رمس مرصود، وها هي الصدفة تفك الرصدّ، وما كان نسياً في أعماق سحيقة، أو هكذا ربما خُيّل له، خرج مرة واحدة، وكأنه على موعد مع هجمة حنين لا ترحم، كانت آخر ما توقعه في تلك الليلة التي لم تنتهِ بعد.
إنها الخطوات ذاتها تقترب، وكما توقع ها هي “الفردة” اليمين من الحذاء الأحمر، هي من سيظهر أولاً، عندما كانت تصل صباحاً وهو ينتظرها منتشياً حينها بقصيدة “درويش” الشهيرة، لكن يده فارغة من كأس اللازورد، وما فيها كأس قهوة لها، حيث اعتادا أن يشرباها على مدرج كلية الفنون، بعد أن تصل تبدأ بالاختباء خلف زاوية الكلية، لتفاجئه وهو يجول بنظرات روحه ليراها بـ “بئوسة” وزنابقها العشر تغطي وجهها الفرحان كطفل، ضحكتها ترن كجرس كنيسة من ذهب، وها هي تقترب، خطوة.. خطوتان، قبل أن تصبح المسافة مجرد وهم فتطير بخفة إليه وتتعلق بأكتافه، سيضمها طويلاً، وعلى قدميه سيقوم ذاك الحذاء الأحمر بشواطاته البيض بالصعود، حيث سيرفعها إلى حيث تحب أن تقطف بضع ياسمينات صباحاً، لتصنع منها ببراعة تذكاراً يومياً: “إن مررت بوقت عصيب انظر إلى ياسمينتي، وتذكر أنا لحبيبي وحبيبي إلي”، وهي تخبره في أذنه أنها حلمت به، أما هو فكان يبقى ينظر إلى عينيها وفوق قلبه ثلج ونار من فكرة أنها قريبة لهذه الدرجة!..
ماذا يفعل حذاؤها بعد كل هذه السنين في بيته؟ راح السؤال يطرق كل أبوابه، قبل أن يفعل بهما الزمان ما فعل، كانا كعادتهما في كل عطلة، يتجهان إلى البحر، وهناك نسيت حذاءها الأحمر بـ”شواطاته” البيض بعد أن ابتاعت حذاء بحرياً، فما كان من أقاربه الذي باتوا ليلتهم الأخيرة على سطح بيتهم، إلا أن أرسلوا الحذاء عبر واحدة من شركات النقل، وبقي يتنقل بين دمشق واللاذقية لأكثر من 3 أشهر، لأن أحداً لم يستلمه، إلى أن قام باستلامه هو بعد أن عاد إليه، حينها وضعه في ذلك الكيس، ولا يدري حتى اللحظة لماذا لم يرمه ببساطة، وكان أن وضعه في العلية ليرسله لها فيما بعد، لكنه نسيه بعد أن صارت الأيام أيضاً من العوائق القائمة التي لن يستطيعا تجاوزها، “تباً للكرامة وأفعال الكرامة إن كنت ستخسر قلبك”، قال لنفسه وتابع لكن هذا لا يعني شيئاً الآن، وهكذا بقي حذاء أحمر بشواطات بيضاء خاص بمن اخترقت روحه كالعصافير، نائماً في علية بيته، ولم يتوقع أن يعني الأمر له شيئاً بعد هذا الزمن، لكن للعقل الباطن مقالته التي لم يدلِ بها بعد، وها هو الرجل الذي كان في الأمس يبحث عن حذائه في العلية، يرقد على فراشه بينما ضوء الله يتسلل من خلف الستائر، غادره النوم وفارقته الدعة، ثم بدأت تلك الأسئلة التي تحيل الأعصاب إلى أسلاك شائكة، تتكاثف في الجو، حتى يصبح مطرها مالحاً، يبدو أن هناك من ترك ملحاً على هذه الوسادة، وفي كأس الماء، وحتى على القميص الذي ارتداه صباحاً وهو نصف نائم.
تمّام علي بركات