Uncategorized

سؤال الديمقراطية بين الصين وأمريكا

 

د. عبد اللطيف عمران

 

يأتي هذا السؤال اليوم في معمعان نقلة مؤلمة يعيشها الفكر العالمي المعاصر، ليعبّر عن أزمة معرفيّة تتمثل في أنه يصدر في أغلب مناحيه عن عقل (سياسي ذرائعي) تكاد تغيب عنه النظرية المعرفية التي كانت مستقرة بطابعها الإنساني المعهود في القرون الماضية.

وقضية الخلاف بين الصين والولايات المتحدة، التي استثمرها مؤخراً الأمريكان على أن محورها الأساسي هو الهم الديمقراطي، هي قضيّة زائفة فكريّاً ومجتمعياً، فشعوب العالم أجمع تعرف أن الهم الأمريكي الذي يصل إلى حد القلق والخوف من الصين هو نابع من بعدين: تجاري، وتكنولوجي، وترى الولايات المتحدة مخرجين أساسيين لمواجهة هذين البعدين هما تحدّي الصين في طرح مسألتي: تايوان (صين واحدة) – وإقليم شينجيانغ (الصينيون الإيغور المسلمون)، وجعل هاتين المسألتين محور طرح الديمقراطية وفق المفهوم الأمريكي.

أغلب شعوب العالم تعرف أن الولايات المتحدة كيان غريب النشأة، ودولة ليست عريقة أبداً، فقد تأسست بعد إبادة السكان الأصليين، ووفق مفهوم وسلوك إبادي، واستيطاني، وإحلالي عنصري، استلهمه فيما بعد الصهاينة في تأسيس كيانهم في فلسطين (المعنى الأمريكي لإسرائيل)، كما تعرف هذه الشعوب أن فهم الأمريكان للديمقراطية وللحرية فهم بائس، قائم على ازدواجية المعايير وعلى الانتقائية والوظيفيّة والبراغماتيّة، بعيداً عن المعرفيّة، والعلميّة والأخلاقية، وهذا ليس رأياً سياسياً ولا حزبياً، وفيما يلي حقائقه بمتخيّر من الوثائق العديدة وبما يؤكد أن رد الخارجية الصينية على القمة الافتراضية للديمقراطية التي دعا إليها الأمريكان في 9-10/12/2021 هو ردّ علمي وواقعي صحيح.

منذ قرنين مضيا من الزمن لاحظ مفكرو العالم أن الأمريكان ينتصرون بشكل فاضح للفلسفة الذرائعية في النظرية والتطبيق وأن شريحة الانتلجيسا (المثقفون والمخابرات) لديهم تتبنّى مبدأ الغابة تبرر الوسيلة، ولعل المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل أوضح هذا بشكل علمي في كتابه الصادر بمجلدين عام 1840 بعنوان (الديمقراطية في أمريكا) وملخّصه: (إن الديمقراطية – هناك – يمكن أن تكون مستبدة مثل الديكتاتورية عندما يقرر الناخبون أن يصوَّتوا لأنفسهم بالمال).

ولم تقف (الديمقراطية الأمريكية) عند هذه الخصائص فقط، لأن مصادرها في الأساس مبنية فلسفياً على يد فلاسفة أوروبيين قصدوا الولايات المتحدة لأنهم وجدوا فيها التربة الصالحة للأفكار والاستراتيجيات التي تُبنى على النهب والاحتلال والحصار والعقوبات وإسقاط الحكومات، والأهم من ذلك إهمال الخيارات الشعبية الحقيقية والحرّة لبناء الوطن والإنسان، فأتى إليها هؤلاء المفكرون ليأصّلوا هذا السلوك القائم على الفردانية والقوة والهيمنة، وكان منهم مثلاً كارل شميت الذي ترك ألمانيا بعد انحيازه إلى النازية وقصد أمريكا وصار أحد الممهّدين لطروحات المحافظين الجدد ولعب في صوغ السياسة الخارجية الأمريكية، ومن كتبه: (البرلمانية والديمقراطية) – و(الرومانسية السياسية)، ومنهم ليوشتراوس الذي أتى من ألمانيا أيضاً وكتب في فلسفة التفوّق والاضطهاد، وصار الملهم لإيديولوجيا المحافظين الجدد وألّف: (تاريخ الفلسفة السياسية) – و(الطغيان)، ومنهم بريجنسكي الذي قصد أمريكا من بولندا وألّف: (رقعة الشطرنج الكبرى)، والعبارة الثانية من عنوان الكتاب تدل على مضمونه وهدفه: (الأولوية الأمريكية وضروراتها الجيواستراتيجية)، وكذلك فعل فوكوياما من اليابان في عمله وفي مؤلفه: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وبعده صموئيل هنتنغتون في كتابه (صراع الحضارات)… حتى وصل الأمر بمنظّر حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو لإصدار كتابه (العمق الاستراتيجي) في 2001 وفيه ينفي أن عوامل القوة الثابتة لتركيا لم تتطور بعد سلب لواء اسكندرون، لذلك نجد جرائم تركيا التوسعية في سورية والعراق وليبيا وأذربيجان، واستثمارها بدماء المسلمين الإيغور وغيرهم.

في هذا السياق كانت طبيعياً أن تكون قمة بايدن الأمريكية للديمقراطية عاراً وعيباً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، فغابت عنها نصف شعوب الأرض، ولم تدعَ إليها القوتان العظميان الصين وروسيا، فكانت ديمقراطية القمة مرادفاً للقوة الأمريكية، وكان طرح قضايا: الاستبداد – الفساد – حقوق الإنسان، فيها طرحاً سياسياً محضاً بعيداً عمّا يعزز الحوار والسلم والصداقة بين الشعوب، تؤطّره الأفكار السابقة لمنظري الهيمنة وأحادية القطب، ومن ليس معنا فهو ضدنا، فركّزت بشكل سافر ووقح في هجومها الوظيفي على التجربة الصينية في هذا المجال.

كان الرد الصيني قوياً واضحاً ومقنعاً، إذ فضح (حال الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية) حيث (صارت الديمقراطية سلاحاً شاملاً تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل في الدول الأخرى ولإشعال الثورات الملوّنة، ولتأجيج الانقسامات الإيديولوجية الموروثة منذ الحرب الباردة ما يتطلب مواجهة خطر تصدير الديمقراطية كنموذج خارجي جاهز، ومقاومة كل أنواع الديمقراطية الأمريكية الزائفة والمريضة)، كما أوضح رئيس قسم الدعاية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لماذا (لا يريد الشعب الصيني إقامة النظام على شاكلة النظام الأمريكي، ولا تفكر الصين في تعميم أنموذجها السياسي والإيديولوجي على الشعوب الأخرى).

والحقيقة أن أمريكا لم تعد تخشى نشاط الصين التجاري والتكنولوجي ومبادرات مثل الحزام والطريق فحسب، بل هي تخشى تطور العقل الصيني في العلوم الاجتماعية والسياسية قبل التقنية، لذلك أطلقت مبادرة (إعادة بناء عالم أفضل) لمواجهة الطموح الصيني المتصاعد والمشروع، وفوراً سفّهت مجلة Foreign Affairs هذه المبادرة بشكل علمي وواقعي.