الرواية الخالدة.. “الإخوة كارامازوف” مثالاً
عندما أنهيت قراءة رواية “الإخوة كارامازوف” للمرة الأولى، وهي من تأليف الروائي الروسي الأشهر والأهم “فيودورميخايلوفيتش دوستويفسكي” -1821-1881، وكنت قد جلست لقراءتها مرة واحدة، رغم حجمها الكبير، وقفت بعد أن قلبت الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني، انظر من النافذة وأنا موقن بأن العالم الذي كنت أعرفه قبل القراءة، قد تغير مرة واحدة وإلى الأبد، كنت حينها في العشرينيات، والأثر الكبير الذي تركته هذه الرواية، كان أحد أهم أسباب إعادة قراءتها في مرحلة عمرية لاحقة؛ عنصر الإبهار لم يخفت بريقه، المفاجآت الأدبية البارعة التي يتفنن بها صاحب “الجريمة والعقاب“ لم يختلف وقعها، جودة الحكاية، تطور الشخصيات، الحوار، الحبكات الرئيسة والفرعية، وغيرها من مفردات العمل الروائي، جاءت في القراءة الثانية أكثر إمتاعاً وإشباعاً للقارئ والناقد معاً في داخلي، وهنا تكمن أهمية هذه الأعمال الأدبية في الوجدان الجمعي، فقيمتها الفكرية ومستواها الأدبي لا يتراجعان بمرور الزمن، خصوصاً إن كان الاشتغال الأدبي، هو أداة تظهير الأفكار التي يريد الأديب بثها، وهذا ما نجح فيه دوستويفسكي في مختلف أعماله الروائية، لكنه في الرواية الآنفة الذكر، يبدع، يقوم بفعل خلق أدبي ما جاء عليه أحد ممن سبقه، دون أن يتنازل عن الأصالة كأحد أهم مكونات أدبه.
“الإخوة كارامازوف” آخر أعمال دوستويفسكي والتي صدرت بشكل كامل عام 1881، بعد أن نُشرت معظم أجزائها في أكبر وأهم المجلات الروسية “الرسول الروسي” تركت صدى واسعاً بين الكثير من القراء حول العالم، إلا أن ما صدر عن العديد من الشخصيات العلمية والأدبية في العالم بحقها حينها، جعلها تكتسح الأدب العالمي وتتربع على عرشه حتى اللحظة، آينشتاين تأثر جداً بها، وهي في رأيه– حسبما قال الروائي شارلز بيرسي– القمّة العليا لجميع الأعمال الأدبية عند آينشتاين، وظلّتْ كذلك حتّى نهاية حياته، وها هو “فرانز كافكا“ يشعر بأن لدوستويفسكي ديناً كبيراً عنده بعد قراءتها، لأنها تركت أثرها الشديد في أعماله الأدبية، أما عالم النفس الأشهر “سيغموند فرويد” فقلد وصفها بأنها: “أروع رواية كُتِبتْ على الإطلاق” ولا عجب أن يكون هذا رأي رائد مدرسة التحليل النفسي فيها، خصوصا وأن أهم ما جاء في مذهبه التحليلي –تقسيم النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام، وهي: الأنا/ الأنا الأعلى/ الهو–يعود إلى رواية “الأخوة كارامازوف” التي كانت أول من طرح هذا التقسيم عبر الشخصيات الرئيسية الثلاث: “ميتيا، منطقة الهو– إيفان، منطقة الأنا– إليوشا، منطقة الأنا الأعلى“، وفي الحقيقة هذا التقسيم الروائي الذي كان ترميزاً للنفس البشرية ذاتها لا لاختلافها من شخص لآخر، كان من الهواجس التي عايشت صاحب “المراهق” في سني حياته والأحداث الكثيرة والمتنوعة والغرائبية التي مرّ بها الرجل، ولعلها واحدة من تأملاته الفلسفية–رغم ادعائه العكس– المتأخرة في سجنه “السيبيري” الذي عاش فيه تلك اللحظات اليقينية لرجل ينتظر تنفيذ حكم الإعدام به.
تحكي الرواية قصة أب جشع، طماع، مهمل، لا يحب إلا نفسه، وعلاقته بأبنائه الثلاثة، الذين يحيك الكاتب حيواتهم كما لو أنه يرسمهم لا يكتبهم، وما ينتج من هذه العلاقة المرضية من أحداث كبيرة تغير عوالمهم، وتكون سبباً في وصولهم إلى مصائرهم المختلفة، كل حسب ميوله وأهوائه، وما يمرون به من تحولات نفسية عميقة يخضعون لها، حسب علاقتهم بالحياة وبالظروف الاجتماعية التي يحيون فيها، وأيضاً من خلال الخيارات التي يتخذونها خلال الزمن الحكائي، وتدل ببنية واضحة على ما يجعل كل شخصية، لها دلالتها الواضحة وميزتها التي لا تحتمل الشك، فهي تقدم عوالمها كما هي بشكل فعلي يكاد الواقعي فيه يطغى على الخيالي.
تتمثل الذروة الكبرى في الرواية، بمقتل الأب وتوجيه التهمة لـ “ميتيا” كونه كان على خلاف كبير معه، وبعد هذا المنعطف الكبير، سنتعرف على عوالم وحيوات وأفكار جديدة ومختلفة، تنضح بها الرواية من خلال شخوصها، محمولة على عنصر التشويق البارع، ومنها سيكتشف القارئ أنها تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية، كما أنها تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا وأوروبا عموماً في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة غزيرة من المواضيع أو الثيم المتنوعة، التي عبّر الكاتب من خلالها عن أفكاره الفلسفية والدينية والنفسية.
تصنف رواية “الإخوة كارامازوف” على أنها روايةً فلسفية، عاطفية، عن روسيا في القرن التاسع عشر؛ وقد أثارت فيما أثارته العديد من النقاشات الأخلاقية المتعلقة بـ: “الله” ومفهوم الإرادة الحرة، وبالأخلاق والدين أيضاً، ويعتبرها كبار الكتاب والنقاد في العالم، بمثابة دراما روحية للنضال الأخلاقي أيضاً، فقد ناقشت العديد من الجوانب المتعلقة به، مثل: الإيمان والشك، القرار، والعقل. كما أنها عبرت عم أهم ما جال في خاطر مؤلفها من مواضيع لاهوتية وفلسفية، مثل أصل الشر، طبيعة الإيمان، مفهوم الحرية، وغيرها.
ورغم أن الإخوة كارامازوف، صدرت مذ ما يقارب الـ 150 عاماً، إلا أنها لا تزال تعتبر حتى اليوم، من أهم ما يدرسه طلاب الأدب والفلسفة في جامعات العالم، إن كان على المستوى التقني، أو على المستوى الفكري، حتى أن العديد من الدراسات المتعلقة بها، لا تزال تصدر وستصدر في المستقبل أيضا، فهي من الأعمال الأدبية الخالدة، التي لا تقدم بتقادم الوقت، وتبقى أفكارها محرضة للقراء على الخوض فيما تختبره شخوصها من ضغوط وتجارب تمر بها، خصوصاً وأن القارئ سيجد انعكاساً لها في دواخله، البارحة واليوم وغداً.
تمّام بركات