ثقافة وفن

تحية إلى عاصي

 

عام 1988 جلس الموسيقار زياد الرحباني إلى طاولته في بيروت، ليشتغل على مشروع موسيقي، كان قد بدأ بالتحضير له قبل عامين 1986 في بريطانيا،إلا أن أمراً جللاً وقع حينها، فتأجل المشروع ثم تحول مساره، لقد مات عاصي الرحباني في 21/حزيران/1986، لذا من الطبيعي أن تتغير مسارات مشاريع موسيقية بأكملها، فهذا الرجل القادم من بلدة انطلياس، غيّر وجه الموسيقا في المنطقة للأبد، بما صاغه من ألحان موسيقية، ثقيلة طربياً، رشيقة إيقاعياً، جملها الموسيقية قصيرة، متلاحقة، وقعها مؤثر على الوجدان، يشعر من يسمعها وكأنه كان مع عاصي عندما وضعها، ذاك لألفتها وقربها من الروح، فكيف لا يقف السلم الموسيقي على درجاته؟ وكيف لا تتشح النوتات الموسيقية بوشاح الفقد؟ الفقد الذي جعل زياد من مرارته، أدونيسا ينبعث على هيئة عاصي في كل مرة تدور فيها أسطوانة “إلى عاصي” وتتدفق أغانيها بصوت السيدة فيروز؛ لقد أعاد الابن توزيع مجموعة من الأغاني التي أنجزها الأب، في حضور وافر لكل من البزق والبيانو، الآلتين الموسيقيتين العزيزتين على قلب أبيه، وفي عام 1995 قدمت فيروز وزياد تحيتهما الخلاقة إلى عاصي، واستمع الناس إلى تحفة موسيقية قليل أن يجود الزمان بمثلها، حتى إن عبارة سرت تقول: ” إن أردتم أن تهدوا أجنبياً أو مبتدئاً ألبومَين لفيروز، فليكن أحدهما «إلى عاصي» وإن أردتم واحداً فقط، فليكن «إلى عاصي». فهو بدون شك وبدون منازع أهم مادة صوتية صدح بها هذا الشرق في تاريخه لغاية تاريخه” لتكون تلك التحية الفريدة، فيها شبه من روح عاصي، نادرة.

من يتأمل فيما أبدعه “عاصي الرحباني”-1923-1986-موسيقياً وشعرياً، سوف تتشكل لديه رؤية أكثر عمقاً عن الطبيعة الإنسانية والفكرية، لهذا الإنسان الفنان، صاحب المشروع الفني والإنساني الكبير، سيدرك أنه أمام حالة استثنائية ونادرة وعظيمة أيضاً، في البيئة اللبنانية المشبعة بالثقافة الفرانكفونية، ظهر ذلك الفنان المجيد، الذي رد الاعتبار لأغاني الجغرافيا السورية التي لم تعترف بـ: “سايكس بيكو”، بعد أن دأب على البحث عن تلك الأغاني برمزيتها المحلية، في أرياف بلاد الشام، وذلك في جهد صادق منه لجلب أبناء الريف إلى الحياة الثقافية في المدينة والتي كانت ما تزال تحت هيمنة التأثير الثقافي الاستعماري، لتكون المفاجأة الصاعقة، للمولعين ب “موزارت/ بيتهوفن” وغيرهم، بأن الميجانا، الدلعونا، الروزنا، الزلف، وغيرها، تكتسح محطات الراديو، قبل أن تحط على كل لسان، وليواصل عاصي بحثه المضني عن مكونات مشروعه، حتى وصل به إلى أقصى الحدود الشمالية، وجلب لحناً كردياً شهيراً ظهر في أغنية “بردا بردانة بردا” وزاوجها بكلمات شعبية فتغنى بها الناس لعقود وما زالوا.

خلف مشروع عاصي الرحباني، يقف فكره الإنساني والوطني، وكان من ثمار هذا المشروع المبارك، أن الأغاني التي أبدعها، شكلت في الوجدان المحلي والعربي، وحدة إنسانية فنية، تقوم باقتلاع الحدود الاستعمارية والحواجز الثقافية بين الأوطان، في كل صباح، تنبعث فيه أغاني فيروز، التي أحبها الجميع على مساحة الوطن العربي، لتعبر الأزمنة صاهرة كل ثقافات المنطقة بتنوعها الإثني والديني والقومي.

الحياة الشخصية المترعة بكؤوس الفرح حيناً والحزن والانكسار والخيبة أحايين أخرى، هي شأن خاص به وبأسرته، ومن المسف والمعيب أن تكون محور الحديث عنه عوض نتاجه الفني الضخم من أغان ومسرحيات ومقطوعات موسيقية، لذا وفي الذكرى الـ 36 لرحيله، نردد مع فيروز تحيتها “حبيتك وسع الغابات، اللي حدودا حدود اللفتات”..

تمّام بركات