ثقافة وفن

“محمد بهنس”.. بين قصر الإليزيه وأرصفة القاهرة!

بينما ما زالت لوحاته تزين جدران قصر الإليزيه بباريس حتى اللحظة، كان “محمد حسين بهنس” -1972-2013- الفنان التشكيلي والروائي السوداني، يسلم في واحد من شوارع القاهرة–العتبة- أنفاسه الأخيرة، مسدلاً بذلك الستار على قصة إبداع مؤلمة، عاش صاحب “راحيل” –عمله الروائي الأول- تفاصيلها لحظة بلحظة ووجعاً بوجع، حتى اليوم الذي لم يعد فيه قادراً على احتمال كل هذا الإهمال، فمات على رصيف بارد احتضن جثمانه حتى ساعات الصباح الأولى، عندما مرّ بقربه كثر وهم يظنون أنه نائم كما عادة هذا المتشرد، الذي لا يعرفون هويته، بينما كان لازال حياً بينهم، يشاهدونه بثيابه الرثة التي لا يبدلها، وملامحه السمراء، وتسريحة شعره (الراستا) التي تميز بها.

ولعل قصة حياة “بهنس” بما فيها من وجع وألم، تؤكد -من حيث لم يكن لدينا مجال للشك-بأن ادعاء القارة العجوز بهمتها العالية لاحتضان أهل الفن والفكر والإبداع، ما هو إلا زيف بزيف، فلوحات “بهنس” المعلقة على جدران القصر الفرنسي الأشهر، والمعارض العالمية التي حملت توقيعه إن كان في باريس أو غيرها من الدول الأوروبية، لم تشفع له بعد طلاقه من زوجته الفرنسية الجنسية، للبقاء في فرنسا التي أشهرت في وجهه أنيابها وسدت في وجهه منافذها، ليفقد الرجل بفقده لزوجه ولحياته الفكرية والفنية، دعة النفس وتدفق الإبداع، وليمضي ما تبقى من حياته متشرداً في أزقة وشوارع القاهرة، بعد أن ساءت أوضاعه المادية وتدهورت حالته الصحية.

في البحث عن حياة هذا الإنسان أولاً، وقراءة معظم ما وقع بين أيدينا من مقالات تناولت قضية موته المفجع والموجع، غاب عن تلك المقالات ذكر السبب الرئيسي للحالة التي وصل إليها الراحل “محمد”، فاللوم لم تلقَ تبعته على السبب وإنما على النتيجة، ومن دون شك فإن ما فعلته فرنسا به، كان له عميق الأثر في دواخله، التي يبدو أنا تهشمت مرة واحدة وإلى الأبد، وهذا ومن حساسية هذا الفنان ورهافته، التي احتملت الألم طويلاً لكنها لم تستطع أن تتكيف معه.

من هو محمد بهنس؟

عام 1972 كانت ولادته في مدينة “أم درمان” في السودان، وما من تفاصيل عن مرحلة الطفولة التي قضاها هناك، غير أنه في بداية حياته العملية، قام بالدراسة في جامعة “الأهلية” لمدة سنة واحدة، تركها بعدها ثم غادر إلى فرنسا بداية الألفية الثانية، حاملاً معه أحلاماً وآمالاً شاقة، بخلاص نهائي من عالم الفقر والمرض الذي أحاطه، تزوج من امرأة فرنسية، ثم تطلقا دون أن ينجب منها، وقامت بعدها السلطات الفرنسية بترحيله، وهنا بدأت حياته بالانحدار، فعودته إلى ملاعب طفولته، كانت مؤلمة، قاسية، فوالدته بيت ألفته، توفيت دون أن يخبره أحد، ثم لحقها أخوه الذي توفي في بريطانيا، ليحيا بعدها في عزلة تامة لمدة ثلاث سنوات.

سافر إلى مصر، ليقيم معرضاً فنياً في القاهرة، وهناك قرر أن يحيا، سكن في منطقة “العتبة” لكن وضعه المادي بدأ بالتدهور رويداً رويداً، ليجد نفسه بعد مدة وقد صار من سكان ميدان التحرير وأرصفته، حيث وجد نائماً للمرة الأخيرة فوق أحدها، بعد أن دثره الموت بغطاء لا مرئي من القهر.

أعماله:

أقام بهنس أول معارضه التشكيلية عام 1999، في الخرطوم، وفي فترة دراسته الجامعية القصيرة، شارك بعدة معارض فنية خارج السودان، منها: معرض “رسومات لايت” للتصوير الفوتوغرافي عام 2006، في قصر المهرجانات،”دى البنات” فرنسا، وفي عام 2004 معرض مدرسة الفن، أديس أبابا، إثيوبيا، عام 2003، المركز الثقافي الألماني، الخرطوم، السودان، 2002، “لغة الألوان”، وكان المعرض بمشاركة 50 من الفنانين الأفارقة.

بلد “الحريات والديمقراطيات”، تقتل أيضاً بلا أسلحة ظاهرة للعيان، وهي لا خجل يعتريها إن أظهرتها، لكن لكل موت عندها طريقة وأسلوب وفن، فأن يطلّق أجنبي زوجة فرنسية، مسألة لا تُغتفر، أما موته فمسألة فيها وجهة نظر!!.

 

تمّام بركات