ما بين الإعلام الحزبي والحكومة
د. عبد اللطيف عمران
تبدو واضحةً علاقة الظاهرة الحزبية بالوسائل الإعلامية من خلال دراسة الخطاب الإعلامي كهدف، وكمضمون، وكشكل أو أسلوب أيضاً، ولذلك تُعدّ الصلة تاريخية بين الوسائل الإعلامية والأحزاب السياسية، وهي في الوقت نفسه مستدامة كما يبدو اليوم على سبيل المثال بشكل أكثر وضوحاً في صحافة وقنوات التلفزيون في لبنان والعراق والمغرب… إلخ، فمثلاً مع الاحتلال الأمريكي للعراق تشكّلت أحزاب وتيارات عديدة، وصدرت حوالى 250 صحيفة عدا القنوات التلفزيونية، مقابل فقدان أو تضاؤل عدد قرّاء أو مشاهدي هذه الصحف والمحطات ولهذا أسباب لا يمكن الحكم عليها أو تفسيرها بالجملة، أو بالتعميم.
وباعتبار الصحافة هي الوسيلة الإعلامية الأولى، فإنه بات من شبه المؤكد ضرورة الربط بين ظهورها وظهور الأحزاب السياسية وذلك لأسباب دعائية وإيديولوجية وجماهيرية في وقت واحد، فالصحيفة كانت، وقد تبقى وسيطاً بين المؤسسة الحزبية أو السياسية وبين الجمهور.
ولنا في تاريخ صحيفة (البعث) وحزب البعث العربي الاشتراكي دليل خير واعتزاز، فإذا كان من المستقر أن التاريخ الرسمي لصدور الصحيفة 3/تموز/1946، ولميلاد الحزب 7 /نيسان/1947، فإن الصحيفة قبل طباعتها وصدورها في ذلك التاريخ كانت نشرة توزّع سرّياً ومشياً على الأقدام كما روى الشاعر العربي سليمان العيسى، وكذلك كان الحزب موجوداً كفكر وكتيار وكمجموعات قبل ميلاده المعلن، فهناك من يروي قول الأرسوزي في يوم شاتٍ من عام 1940:
(لقد أنشأنا اليوم حزباً عربياً جديداً هو (حزب البعث العربي)، رفاقكم في الجامعة سيتصلون بكم ويوزّعون عليكم المهمات… ولقد قررنا أن ننشىء جريدة تنطق باسمه، ولتكن أسبوعية مؤقتة كي لا تأخذ من دراستكم أكثر مما ينبغي، وسمّينا الجريدة باسم الحزب الجديد (البعث)… وصدرت الجريدة مكتوبة كلها بعد أسبوع بخط يد سليمان العيسى الطالب في التجهيز (ثانوية جودت الهاشمي)… ثم داهمت سلطات الانتداب الفرنسي بيت الأرسوزي واعتقلوه ونفوه إلى اللاذقية…)، والحديث يطول، وذو شجون، بين الصحيفة والحزب، ولذلك يعدُّ أرشيفها اليوم، غير المتاح تماماً، وثيقة تكاد تكون من أهم الوثائق في تاريخ الوطن والأمة. والصحيفة منذ أعدادها الأولى إلى ثورة ٨ آذار ١٩٦٣ هي صحيفة حزب وشعب بالدرجة الأولى، وبعدها إلى اليوم أضيفت الحكومة إليهما، وهذا ما أتى على حساب جماهيريتها، شأنها في هذا شأن الحزب قبل أن يكون في السلطة وبعد أن وصل إليها، وهنا تأتي الإشكالية المستدامة في العلاقة بين الحزب والسلطة.
ولهذا، فغالباً ما يكون لوسائل الإعلام توجهات سياسية دون أن تكون واضحة تماماً. إذ نادراً ما نجد وسائل إعلام مستقلة، وإن ادعت ذلك، بحيث تصبح وسائل الإعلام والأحزاب السياسية شركاء، وهذا ليس فقط في الأحزاب العقائدية مثلاً: في الصين صحيفة (الشعب) وكوبا صحيفة (غرانما) وكوريا الديمقراطية صحيفة (رودنغ سيمون)… إلخ، بل في الأحزاب البراغماتية في الغرب أيضاً، فمن شبه المؤكد أنه في بريطانيا هناك صحف يمينية محافظة مثل الديلي تلغراف، والتايمز، وصحف عمالية قريبة من اليسار مثل الغارديان والإندبندنت والأوبزرفر، وصحف ليبرالية مثل الإيكونو ميست، وكذلك في فرنسا فصحيفة اللوموند قريبة من الحزب الاشتراكي، والليبراسيون واللومانيتيه قريبتان من الشيوعية، وكذلك قناة CNEWS يمينية متطرفة وقد ألغت الشهر الماضي لمنفعة وبضغط من قصر الأليزيه لقاءً متفقاً عليه مسبقاً مع زعيم قبائل أفريقي، وفي ألمانيا دير شبيغل يسار الوسط قريبة من الحزب الاشتراكي، وبيلد يمينية محافظة أطلسية، وفي الولايات المتحدة فالنيويورك تايمز، ولوس أنجلوس تايمز تمثّلان اليسار الأمريكي وقريبتان من الحزب الديمقراطي، بينما الواشنطن تايمز وشيكاغو تريبيون محافظتان قريبتان من الحزب الجمهوري.
وهذا يؤكد أن من حق الأحزاب السياسية ومن واجبها أن تسعى إلى التأثير من خلال الإعلام على الرأي العام للاستفادة من التغطية الإيجابية واللجوء إلى التسويق السياسي والاجتماعي والاقتصادي أيضاً، وخاصة في الانتخابات… وفي هذا بعض مما يؤكد أن لا حزب إلا ويسعى إلى السلطة، على تنوع أشكال السلطة، والإعلام هو من سُبل الوصول إلى السلطة، ومن سُبل تقويضها أيضا.
ففي زمن يكون فيه الإعلام الحزبي والإعلام الحكومي، والمجتمع والحكومة في مواجهة الانتقال من وسائل الإعلام التقليدية الثلاث إلى إعلام التكنولوجيا الرقمية والسوشيال ميديا، سيكون الجميع أمام رهانات جديدة وفي مواجهة بدائل إعلامية متجددة ومستدامة يطفو فيها عنصر الاستقلالية، والبعد عن الموضوعية، والمهنيّة، فمن أخطار هذه البدائل تحويل الإعلام والوعي والحوار والمؤسساتية إلى مهاترات ولا سيما مع منصات إعلامية مجهولة النسب، ما يضع الإعلام التقليدي الحزبي والحكومي في منافسة غير عادلة، وأمام مخاض عسير يكاد يخسر متابعيه في وقت صار فيه الإعلام سلطة رابعة، وجيلاً خامساً في الحروب، فالإعلام وقت الحرب موقف حربي أيضاً.
في هذا السياق من التنوّع، والتكامل، والتباين بين الإعلام الحزبي والحكومي، والشعب والحكومة، وفي زمن الحرب عليهم جميعاً يكون القاسم المشترك هو المصلحة الوطنية، والمهنية أيضاً، فالإعلام المضاد لا يواجهه إلّا مهنيّة الإعلام الوطني بمختلف قطاعاته ووسائله، وهذا الهدف بدا واضحاً في كلام السيد الرئيس بشار الأسد في لقائه منذ أسبوعين مع ممثلي الوسائل الإعلامية الحزبية والحكومية والخاصة، إذ قال سيادته:
((لقاؤنا اليوم ليس لإعطاء معلومات، وشرح التفاصيل، بل أساسه النقاش والحوار حول منهجيّة التفكير وآلياته في القضايا السياسية والاقتصادية والإعلامية الراهنة، التي يمكن أن توضّح وترسم سيناريوهات المراحل المقبلة سياسياً واقتصادياً)).