دوليسياسة

الحرب روسيّة أمريكية.. وأوكرانيا المسرح.. والخاسر الأكبر أوروبا

تمثّل الحرب في أوكرانيا مدخلاً أو تمهيداً لنظام عالمي جديد، فالمنتصر سيرسم ملامح هذا النظام لنصف قرن قادم، لأن التحوّلات والتغيّرات التي ستنتج عن ذلك ستعيد رسم الخريطة الأوروبية وتعيد للأذهان اتفاقيات يالطا وفيرساي، وخطوط التقسيم التي ظهرت في أوروبا مع الحرب الباردة، وما تبعها من دروس تعلّمت من خلالها روسيا الاتحادية الدروس، وهي تعمل من خلال هذه الحرب على كسر احتكار سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على أوروبا وبشكل خاص مناطق أوروبا الشرقية، حيث تتستر بحلف شمال الأطلسي للسيطرة عليها، كما تقوم بنشر منظومات صواريخ متوسطة وبعيدة المدى ضاربة عرض الحائط بالأمن القومي لروسيا، فهي تستمرّ بالعمل على تهويل الخطر الروسي في نظر الدول الشيوعية السابقة وفي مقدّمتها بولندا، حيث جعلت من موسكو في الوعي الجمعي لها شبحاً يسعى إلى التمدّد والسيطرة عليها واحتلالها، كل ذلك من أجل دفعها إلى عمليات تسلّح كبيرة المستفيد الأكبر منها معامل الأسلحة الأمريكية، حيث قامت بولندا وخلال الأيام القليلة الماضية على توقيع صفقات تسليح ضخمة للتزوّد بالدبابات والطائرات لمواجهة عدوّ افتراضي وُضع في مخيّلتها ألا وهو روسيا، وهي المرة الثانية التي تقوم فيها الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام بولندا فيها رأس حربة للضغط على أعدائها، حيث كانت المرة الأولى في القمّة التي عُقدت في وارسو شباط /2019/، وجمعت الدول العربية و”إسرائيل” وعدداً من الدول الأوروبية لمناقشة قضايا الأمن الإقليمي، وبشكل خاص العلاقة مع إيران وبرنامجها النووي.

وبالعودة إلى الحرب في أوكرانيا، يُلاحظ أنَّ هناك توجّهاً للهجوم على الأقليات الروسية في شريطها الحدودي الغربي، فضلاً عن التحرّكات الدبلوماسية تجاه كييف، فكانت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لأوكرانيا تأكيداً للدعم الأمريكي للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، كما وقّع اتفاقياتٍ لتزويد بولندا بالسلاح، لكن هذه الزيارة لم تكن لتتم دون إذن روسي، فكيف لبايدن الوصول إلى كييف والتجوّل بحرية دون موافقة روسية أو إيقاف إطلاق نار في بعض المناطق، فوصوله كان باتفاق سري لتعويم الديمقراطيين في الانتخابات القادمة.

تستمرّ المبادرات الساعية إلى حل الصراع الروسي الأوكراني الذي يحمل في طيّاته صراعاً بين الشرق والغرب، فالصين، في مؤتمر ميونخ وبعده، طرحت مبادرة تتكون من اثنتي عشرة نقطة أهمّها التخلي عن عقلية الحرب البادرة ووجوب عدم السعي إلى تحقيق أمن دولة ما على حساب دولة أخرى، أو تحقيق أمن المنطقة من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية، فضلاً عن وقف القتال واستئناف محادثات السلام، فالحوار هو أساس المبادرة وحجر زاوية السلام في نظر الصين وليس لغة السلاح، إلا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تشكّك في حيادية الصين وتعمل على نشر تصوّرات من قبيل استعداد الصين للهجوم على تايوان مع حلول عام /2027/ وغيرها من الرؤى التي يخرج بها المسؤولون الأمريكيون ومراكز دراساتهم لتحجيم الدور الصيني في المبادرات المطروحة، إلا أنَّ الصين استطاعت الاستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية وطبيعتها، فهي كدولة وكلاعب دولي لها مصالح تسعى إلى تحقيقها، وهي اليوم تلعب دور المتفرّج وطارح المبادرات في الصراع الروسي الأمريكي في أوكرانيا، وتعمل على استخلاص العبر في استراتيجياتها المستقبلية، وبالإضافة إلى الصين هناك بعض الدول التي من المحتمل أن تلعب دور الوسيط بين أطراف الصراع كالمملكة العربية السعودية التي قام وزير خارجيتها فيصل بن فرحان بزيارة إلى كييف، وهو أول مسؤول عربي يلتقي زيلنسكي بعد الحرب، وتمَّ توقيع اتفاقياتٍ لتطوير مشاريع الطاقة بلغت قيمتها /300/ مليون دولار أمريكي، وهي زيارة تحمل في طيّاتها مصلحة سياسية على مستويين:
الأول: لإحداث نوع من التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الأوروبي من البوابة الأوكرانية، حيث ابتعدت المملكة العربية السعودية عن المعسكر الغربي وخصوصاً بعد التنسيق مع روسيا فيما يتعلق بأسعار النفط عالمياً، فهناك مصالح متبادلة بين الجانبين، إضافة إلى حضوره لبروكسل ولقائه مسؤولين أوروبيين، فإنه يتبع نهجاً انفتاحياً تصالحياً للتقارب مع الغرب.
الثاني: لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا وممارسة دور دبلوماسي في المنطقة كطرف جديد في المعادلة له علاقات مع الأطراف كافة، ومن خلاله تستطيع المملكة العودة للعب دور الوسيط الدولي الساعي إلى السلام، وبالتالي يظهر ولي العهد السعودي كرجل سلام وهو ما سيُفضي إلى تلميع صورته الدولية من جديد.

ستعمل الدول على استثمار هذه الحرب التي أعادت صياغة المفاهيم السياسية للعلاقات الدولية الراهنة، حيث أنتجت أفكاراً مختلفة عمّا ساد عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وبات الباب مفتوحاً للدول للعب دور الوسيط في عالم تحكمه المصالح والرؤى الاستراتيجية الكبرى، فما بعد الحرب ليس كما قبله، وخريطة أوروبا التي أنتجها ميخائيل غورباتشوف وجورج بوش الأب ستتبدّل، والخطوط والخرائط المعروفة سيُعاد رسمها وفق رؤية المنتصر، وهو ما يدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى دعم أوكرانيا بإمكانيات كبيرة، فالحرب السرية بينها وبين روسيا، وزيلينسكي مجرّد أداة، وخسارته لهذه الحرب هي خسارة أمريكية بالصميم وسقوط لأوروبا وتلاشٍ لحلف شمال الأطلسي الذي بات حلفاً هشاً عاجزاً عن الدفاع عن مصالح الدول المنضوية تحت لوائه لسبب وحيد هو تضارب مصالح هذه الدول وتشابكها.

مطانيوس الصفدي