الإشكالية المعاصرة لمثلث: الإرهاب والاحتلال والاستيطان
د. عبد اللطيف عمران
حضور هذه الاشكالية من حيث المفهوم والمصطلح المختّلف عليهما في الفكر السياسي، وفي القانون الدولي، وفي تكييف قرارات الأمم المتحدة وفق ازدواجيه المعايير… سيجعل العالم في حال مستدامة من التوتر والنزاعات والاقتتال.
من الطبيعي أن تمضي سيرورة المجتمع البشري، منذ القدم إلى اليوم، في ديناميكية يتناوب فيها الخلاف والوفاق، الحرب والسلم، المستغَل والمستغِل. لكن من غير المعقول، ومن غير المفيد، أن لا يصل المجتمع الإنساني إلى تعريفات أو تفاهمات محددة وواضحة لمسائل ملحة تتعلق بتطلعاته وبمصائره، ولا سيما بعد تطور العلوم الاجتماعية وتقدمها، بما فيها خاصة السياسة والقانون والإعلام، في وقت يستمر فيه اضطراب هذه العلوم في تقديم مفهوم واضح علمي للإرهاب، والاحتلال والاستيطان، مثلاً.
ورغم أن هذا الأمر ليس جديداً في تاريخ البشرية، إلا أن التاريخ الحديث، بما رافقه من توسع غير مسبوق في الهيمنة الغربية، والأمريكية خاصة، شهد حدوداً قصوى من تحريف المفاهيم الحقوقية والقانونية والأخلاقية، ومن ممارسة أوسع أشكال التسييس حيال مختلف الظواهر والأنشطة الدولية، ولم يتردد هذا الغرب في أحيان كثيرة من الانقلاب على القواعد والتعريفات المتفق، أو المتعارف عليها، في إطار الهيئات والمنظمات الدولية ذات الصلة، عندما كان يجد أن مثل هذه القواعد تتحول بما لا يخدم هدف السيطرة الأمريكية الصهيونية على المنطقة والعالم، أو تتحداها؛ وللأسف، فقد بلغ الأمر، خلال السنوات الأخيرة، درجة الانسحاب من هذه الهيئات والمنظمات أو التوقف عن تمويلها، بغية إفقارها وإلغاء دورها، كما في اليونسكو والأونروا، أو اختراقها من الداخل وتسييس عملها والتلاعب بتقاريرها، كما في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، عدا عن عشرات القرارات الدولية التي تمت صياغة نصوصها تحت التهديدات والضغوط على الدول الصغيرة، سواء في مجلس الأمن الدولي أو في الجمعية العامة، بحيث تحولت المنظمة الأممية خلال السنوات الماضية من منتدى لبناء الإجماع الدولي إلى أشبه بمكتب ملحق بوزارة الخارجية الأمريكية، يملي القرارات أو يفسرها أو يعيد تفسيرها.
ولعلّنا نحن، في هذه المنطقة من العالم، نعيش هذه الحال بأبشع صورها وأسطع مفارقاتها، ولا سيما فيما يخص التعاطي الغربي مع مثلث الإرهاب، والاحتلال، والاستيطان، وهي العناوين الثلاثة التي تختزل علاقة الغرب الأوروبي والأمريكي بمنطقتنا العربية منذ بدايات القرن الماضي على الأقل، والتي تتعرض باستمرار لمحاولات متكررة من المراجعة والتسييس والتحريف المنظم، بما يصادر حق شعبنا في تقرير مصيره، وينتزع منه أي حق في المقاومة، ويسيء لصورة نضالنا، أمام أنفسنا وأمام العالم، لاسترجاع أراضينا المغتصبة.
فمن جهة يعاني وطننا العربي من استمرار اشكالية التصنيف والتعريف للإرهاب والاحتلال والاستيطان، كفعل وكحضور، ومن جهة ثانية فإنه يعاني من غياب أي اتفاق دولي (.. وحتى عربي في ضوء مساعي التطبيع الأخيرة)، على النظر إلى عمل ما على أنه احتلال أو إرهاب أو استيطان. ولعل من أبرز أسباب ذلك ما يتصل اليوم بالنظرية والممارسة الصهيو – أمريكية ضد القضايا والحقوق العربية في مختلف الأقطار، وأكثرها مما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ولعل هذه النظرة الصهيو – أمريكية إلى هذه الثلاثية الإرهاب والاحتلال والاستيطان، تستمد جذورها المعرفية والفلسفية والتاريخية، من حيث النشأة والتطور والاستثمار، من نشوء الولايات المتحدة الأمريكية، ومن محافظتها على كافة الظواهر الأساسية الثلاثة لتلك النشأة وحتى اليوم؛ وكذلك الأمر في نشأة الكيان الصهيوني وممارساته وتفكيره أيضاً، فالتحالف الصهيو- أمريكي اليوم يمارس، وقد مارس، ضغوطاً على المجتمع الدولي في اتجاهين: الأول منهما ممارسة الإرهاب والاحتلال والاستيطان، والثاني الضغط على ذيوله وحلفائه في العالم لعدم إقرار تعريف واضح وعادل ومجد يستقر العالم عليه – في منظمات الأمم المتحدة وفي القانون الدولي – لمكافحة مخاطر هذه الظواهر والاستثمار فيها أبشع استثمار.
فمثلاً، الولايات المتحدة الأمريكية تحتل اليوم أراضي في شرق سورية، وتمارس على الدولة والشعب في سورية، باحتلالها هذا، جرما إرهابياً، فيكون احتلالها وإرهابها موصوفين، وسوّغ دبلوماسيوها وبعض مفكريها هذا بأنه يأتي في الأساس لمكافحة إرهاب موصوف (“داعش”) بقرار من مجلس الأمن الدولي الذي يصنف “داعش” و”النصرة” إرهاباً. ولا يصنف “قسد” كذلك، بينما تركيا تدعم “النصرة” وذيولها وتصنف “قسد” إرهاباً… وهكذا!!
وأما الإرهاب فلم يقدم القانون الدولي تعريفاً واضحاً له، فبقي محملاً بتركات سياسية وإيديولوجية حتى ضمن المنظومة نفسها، فـ “قسد” تحارب الإرهاب مع الأمريكان، وتركيا تحارب “قسد” على أنها إرهاب.. وهكذا فالمحاولات العديدة للأمم المتحدة لتعريف الإرهاب غير موفقة وغير مقنعة، ولا سيما أنها تصاعدت وتعددت كردّة فعل، بعد أيلول 2001، وربما أوضحها، وأسخفها، قرار مجلس الأمن 43/60 لعام 2006 إذ لا يفرق كثيراً بين المناضل الذي يدافع عن قضاياه الوطنية، وبين الإرهابي الذي يقاتل لنصرة التطرف والاحتلال والاستيطان.
وكذلك الأمر في إشكالية الاستيطان، فبالرغم من استمرار تأكيد الأمم المتحدة ومجلس الأمن خاصة بالقرار رقم 2334 لعام 2016، الذي أكد عدم قانونية الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب القانون الدولي، إلا أن الإدارة الأمريكية زمن ترامب خالفت قرارات مجلس الأمن بشأن الاحتلال والاستيطان في القدس والجولان، كما أن وزراء ونواباً إسرائيليين بالأمس ناصروا وتراقصوا مع أعضاء جمعيات استيطانية يمينية دينية متطرفة لتشجيع الاستيطان والتوسع فيه. فالاستيطان والاحتلال المناقضان لميثاق الأمم المتحدة مستمران، والغريب أن بعض العرب يمضي في التطبيع، ويقبل هذا الذي يرفضه القانون والمجتمع الدولي.
بقي أن نقول إن من أخطر منعكسات هذا الخلاف هو نشوء أجيال طالعة على الحياة لا تميز بين الإرهاب والكفاح المسلح، وبين الاحتلال والاستيطان، وكثيراً ما يصور الإنسان المناضل من أجل حقوقه على أنه إرهابي، على غرار ما يفعل الصهاينة مع أبناء شعبنا الفلسطيني، أو مع الجماعات التي تمارس حقها المشروع في القانون الدولي ضد الاحتلال والاستيطان، ما يتطلب وضع هذا التمييز على طاولة البحث والفعل.
لقد كان مقيضاً لهذا التناقض أن يستمر إلى ما لانهاية، ولكن انهيار النظام القائم على الأحادية، وبزوغ عالم جديد قائم على التعددية القطبية، يستدعي المبادرة السريعة لإعادة تثبيت المصطلحات السياسية والقانونية والأخلاقية وفق تعريفاتها الدقيقة والصحيحة، بعيداً عن أية تشويهات أو تحريفات فرضتها توازنات القوى العالمية، وظروف الهيمنة الغربية الآخذة اليوم بالتلاشي. ولعل في مقدمة ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3236 لعام 1974، والمتضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واسترجاع حقوقه بكافة الوسائل المتاحة، وهو ما فسره كثيرون بـ “الحق في الكفاح المسلح”، وبما يستتبع ذلك لجهة أن نضال الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة بمختلف الوسائل ليس إرهاباً، إنما الإرهاب هو منع هذا الشعب من نيل حقوقه..
وبالمحصلة، فالظروف الاقليمية والدولية الراهنة ستسمح بل تساعد على حل هذه الاشكالية. فها هي الغطرسة الصهيو – أمريكية، والاصطفافات الناجمة عن هيمنة أحادية القطب، آخذة في التلاشي مقابل صمود محور مقاومة المشاريع الإمبريالية والنيوليبرالية والصهيو-أمريكية على المستويين الإقليمي والدولي.