نزعة الحوار: المستويات والآفاق
د.عبد اللطيف عمران
الحوار ظاهرة إنسانية، لها طابعها الحضاري، تقوم على تقوية التواصل والتفاعل الإيجابي في المجتمع والدولة، وفي أبعد من ذلك، باعتباره ظاهرة إنسانية فهو بمستوياته المتنوعة والعديدة عابر للحدود وللزمان والمكان يتجاوز بروحه وآفاقه الصالات والمؤسسات والاجتماعات والصفحات الضيّقة، فلا يعرف إلّا الرحابة، وينبذ الضِيق والبرَم والخوف.
لا نزال نذكر العبارة الهامة التي أطلقها ذلك المثقف السوري الكبير، والأديب المعروف عام 1996 حين كلّفه المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي فاختار عنوانها (الجوع إلى الحوار)، وفيها قال أيضاً: (نحن محكومون بالأمل).
نعم نحن في منطقة من العالم بغياب الحوار الواعي والمسؤول والمتمدّن عنها حضر إليها من أربع جهات الأرض التطرف والإقصاء والعنف والإرهاب، وصرنا في هذه المنطقة بحاجة إلى وقت طويل، وقد يكون طويل جداً حتى يترسّخ فيها الحوار كثقافة وكذهنية وكنهج، ويستعيض الأهلون عن رائحة البارود بطيب الكلام. ففي الحوار يعرف الإنسان شرطه التاريخي والوجودي في سياق جماعي يعزّز ارتباطه بالوطن وبالمجتمع.
في هذا السياق ينظر الكثيرون منا في أسباب الحوارات واللقاءات العديدة والمتنوعة، وفي مآلاتها التي عقدها السيد الرئيس بشار الأسد ولا سيما خلال الأسابيع القليلة الماضية، ففي 22/شباط كان اللقاء مع الأكاديميين والكتّاب والحوار معهم في عناوين وطنية، وأخرى حزبية، وثالثة تتعلق بالفكر والهوية، وفي 28 شباط التقى سيادته المشاركين في مخيّم الشباب السوري الروسي، وفي 9 آذار بحث في اجتماع حكومي مصغّر السياسات المتعلقة بدعم وتنمية المشاريع الصغيرة، وفي 10/آذار التقى مجموعة من نجوم الدراما السورية وحاورهم في صناعة الدراما وتحديات الإنتاج والنصوص والتصوير.
نعم إن الحوار ثقافة ونهج، ففي هذه الحوارات يرى المتلقي المشارك، والمراقب، أنها تقترن بالقيمة العالمية التي ينجزها الحوار في سبيل بناء الوطن والمواطن، كما تقترن بأن المشاركة في الحوار لا تنفصل عن المشاركة في المسؤولية، وفي الهمّ الوطني والمجتمعي والفردي، ولا سيما أن نزعة الحوار – كما لاحظنا – مرتبطة بمنهجية التساؤل، وبحضور السؤال الصريح والمباشر في ظروف يعاني جرّاءها الوطن والمجتمع والمواطنون.
في هذه الظروف يكون الحوار هو الرد الحاسم على محاولات البعض، في الداخل والخارج، استغلال الظروف الاقتصادية القائمة، لجرّ الأوضاع إلى الفوضى أو إلى طريق مسدود، أو إلى اليأس والإحباط.
فهناك من لا يروق له الاعتراف بأن معركة السنوات الماضية حسمت لصالح المعسكر الوطني الذي يجد اليوم نفسه أمام أسئلة كثيرة تتعلق بمدى قدرته على إدارة الوضع بأفضل طريقة ممكنة، وأفضل جهوزية للانطلاق للمستقبل.
إن الحوار هو الآلية المطلوبة والمعتمدة – والتي يفترض أن تكون كافية – لبناء التفاهمات الضرورية قبل الانطلاق في أي مشروع وطني يحتاج إلى مشاركة ودعم مختلف الأطراف والمكونات. وخاصة في المراحل الانعطافية من تاريخ أي بلد أو شعب أو أمة، وأهمية الحوار – هنا – لا تكمن في حشد الدعم والمساندة وحسب، بل وأيضاً في توزيع المسؤوليات، فعمليات الإصلاح الحقيقية والجدية صعبة وشاقة، وتحتاج إلى نفس طويل ومراجعة مستمرة ومتواصلة، وهي عرضة دائماً للهزّات والانتكاسات، بحكم طبيعتها طالما أنها تنتقل من خطوة إلى أخرى. ولكن ما يمكّن من قيادتها بنجاح هو أنها مبنية، في المقام الأول، على الحوار، بمعنى أنها لا تقبل العودة إلى الوراء على الإطلاق، وهي تتسلّح بالهدوء والصبر والثبات، ولكنها لن تعرف النكوص أبداً لأنها مبنية على قناعات مشتركة، وعلى التزامات متبادلة بين مختلف الأطراف الفاعلة، مع الاعتراف مسبقاً بأنها تحتاج، دورياً، للتوافقات أو التصويبات أو التعديلات، في ضوء ما يتمخّض عنها من نتائج على الأرض.
إن المشاركة، كصفة ملازمة للحوار، تعكس، في أحد جوانبها، واقع المساواة بين مختلف أطراف الحوار نفسه. وهي تلغي أي تمييز أو امتيازات سابقة على الحوار نفسه – مهما كانت طبيعتها أو مصدرها – فيما بينهم؛ وهي، على هذا النحو، تغدو صفة موازية للعدالة والرقيّ التي تنتزع، بوجودها، أية ذريعة للتهرّب من تطبيق القانون أو الخروج عليه، أو الخروج على القيم والمبادئ الوطنية، أو تبرير أية محاولة للتخريب، أو الارتباط بالخارج أو خدمة المصالح الأجنبية، أو حتى السماح لأنفسنا بممارسة الفساد.
إن الحوار بهذا المعنى ليس ترفاً بل هو مسؤولية قبل كل شيء.
وهذه المسؤولية الحاضرة في مستويات الحوار المتنوّعة، واللازمة لتحقيق الآمال المنشودة من آفاقه المنتظرة، هي التي جعلت الناس تتنازع الطموح والمبادرة إلى المشاركة فيه، وتتابعه بلهفة وأمل، ما يرتّب على المشاركين في مثل هذه الحوارات بمستوياتها وآفاقها أن يحاذروا من آمال الناس المعقودة على مخرجات الحوار، وخاصة أن قسماً كبيراً من المتشرّفين بلقاء السيد الرئيس والحوار معه يعتقدون أن ما بذهن سيادته كمشروع هو أبعد مدى من الحوار بحد ذاته، على قيمته.