التوجهات الصينية في عالم متغير
تنطلق القوى الكبرى في رسم سياستها الخارجية انطلاقاً من اعتبارين هامين الأول هو تحقيق المصلحة القومية وأما الهدف الثاني فهو تأمين الاستمرارية من خلال تقديم الرؤى المتعلقة بواقع الأمن القومي وتحقيق النفوذ في المحيطين الاقليمي والدولي, وجمهورية الصين الشعبية مثلها كمثل سائر القوى الكبرى في العالم التي وجدت والتي ستوجد عبر التاريخ حيث تعمل على تأمين الاستمرار وتحقيق الأمن والمنفعة لشعبها ليمارس دوره في تطوير بلاده من جهة وإيجاد نمط جديد في القيادة العالمية.
لقد استطاعت الصين قراءة الواقع الدولي واستشراف مستقبل العلاقات الدولية وربطها بالجيوبوليتيك وانطلاقاً من ذلك يمكن الارتكاز على مجموعة من النقاط الهامة:
– إنَّ قلب العالم كما وصفه المفكر البريطاني ماكيندر ورسم حدوده قد توسع اليوم وبات يشمل مناطق أوسع, فلم تعد السيطرة على المناطق القارية وحدها التي ترسم المسيطر الفعلي على قلب العالم ومن خلاله على العالم, فالصراع اليوم على المناطق المحيطة بقلب العالم الذي تحدث عنه ماكيندر ومن جاء بعده في وضع ملامح النظام الدولي والعالمي.
– إنَّ المحيطات والبحار المحيطة بالحدود القارية للهلال الداخلي لقلب العالم تشكل اليوم نقطة ارتكاز في أي صراع مستقبلي, وتقوم الصين اليوم بتوسيع مياهها الاقليمية من خلال الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي دفاعاً عن برها الرئيسي في وجه الأطماع الأمريكية, وهو ما ينذر بصراع صيني مع بعض الدول التي تتبع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة بفعل التحريض الأمريكي.
– كما أنَّ المنطقة الممتدة من جنوب شرق آسيا إلى المضائق في المحيط الهندي وجنوب شبه القارة الهندية وصولاً إلى افريقيا تمثل خط التجارة العالمي الرئيسي وهي منطقة التداخل بين الهلالين الداخلي والخارجي لقلب العالم, ومن يسيطر على هذه المسطحات المائية يتحكم بالتجارة العالمية وبالثروات في القارات والعالم القديم, وهو ما يدفع الولايات المتحدة الأمريكية للدخول بنزاع في هذه المنطقة والتوجه نحو آسيا والمحيط الهادئ وإيجاد مناطق نفوذ جديدة في افريقيا فكان صدام المصالح الروسي الأمريكي بالمنطقة من خلال انتشار الانقلابات خلال السنوات الماضية وبالتالي يمكن استنتاج أنَّ منطقة قلب العالم الرئيسية في التاريخ المعاصر هي افريقيا ويحيط بها شرايين التجارة الدولية في الاتجاهات كافة نحو الشرق والغرب.
صراع جديد:
الصراع اليوم في قلب العالم القديم (الحرب الروسية- الأوكرانية) وفي مناطق الغلاف المحيطة بالقلب وهناك محاولات لتوسيع رقعة النزاع ليشمل الصين وتايوان والكوريتين, كما أنَّ استمرار وتيرة الحروب يفيد القوى المناوئة للصين والرافضة لقيامها بلعب دور دولي عبر عرقلة المشروع الصيني الحزام والطريق الذي يمثل رافعة للصين تستطيع من خلالها تقليص النفوذ الغربي وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية التي تنشر قواتها في المنطقة الممتدة من اليابان وكوريا وصولاً إلى شواطئ افريقيا (مئات القواعد وآلاف الجنود والبوارج الحربية تجوب البحار) في سعي للسيطرة وتقليص نفوذ القوى الكبرى الأخرى.
الغرب والصراع في قلب العالم:
لقد توقف الرهان الأمريكي على الرئيس الأوكراني بعد عجزه عن تحقيق أي تقدم هذا العجز الذي فتح الباب أمام الصين لتقديم مبادرة لايقاف القتال في أوكرانيا, وهو ما أدى لمحاولات متعددة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية للتقارب مع الصين عبر زيارات انتوني بلينكين وزير الخارجية الأمريكي هذه الزيارات بادرة طارئة ظاهرها الحوار أما باطنها فهو طلب الدعم الصيني لتفعيل مبادرتها الخاصة في أوكرانيا بعد ملامسة الولايات المتحدة الأمريكية الوعود الفارغة للرئيس الأوكراني وعدم جدوى محاولاته ممارسة ضغوط عسكرية عبر الكوميديا الإعلامية التي نجح زيلينسكي بها, فقد نجح من خلال الحملة الاعلامية لهجماته المضادة ومن خلال القدرات الدعائية من الاستثمار في هذا المشروع للحصول على دعم غربي مادي وعسكري لم يؤدِ إلى أي نتيجة ولم يحدث أي تقدم في الميدان على العكس فقد كان لروسيا القدرة على استيعاب الهجمات الأوكرانية وإحداث فروقات كبيرة خصوصاً مؤخراً في محيط خاركيف, فالزيارات الأمريكية هدفها اللحاق بركب الصين في العلاقات الدبلوماسية خصوصاً بعد نجاحها في ملأ الفراغ الأمريكي في التسويات الكبرى وما نتج من مفاوضات وتقارب سعودي- إيراني. وقد سعى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لعب دور محوري على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية حيث قام بفتح حوار مع الصين من جهة مع تقديم دعم عسكري ضد روسيا خصوصاً بعد تراجع النفوذ الفرنسي في افريقيا لصالح روسيا وإحداث الفيلق الافريقي للدفاع عن المصالح الروسية في المنطقة, فهناك تخوف غربي من الوجود الروسي والصيني في القارة الافريقية لما تحتويه من ثروات قادرة على دفع اقتصاد شركاء القارة خصوصاً الصين فهي الشريك الأكبر لافريقيا وفيها /1000/ شركة صينية عاملة منذ عام /2005/ واستثمارات تبلغ /2/ تريليون دولار.
مما سبق نلاحظ الخوف الغربي من ملأ الصين الفراغ في افريقيا خصوصاً مع موجة الانقلابات فبدأت تنتشر انقلابات بأصابع أمريكية صهيونية في عدد من الدول الافريقية على رأسها الكونغو خصوصاً بعد توضح معالم وتوجهات قادة الانقلابات التي حدثت العام الماضي فهناك تخوف من تقلص نفوذ الغرب في القارة أمام النفوذ الصيني الروسي.
الحزام والطريق, استراتيجية الصين الكبرى:
لقد استفادت النخبة السياسية الصينية من المكاسب الكبرى خصوصاً الاقتصادية فأعادت الصين للساحة العالمية وعادت استراتيجية الحزام والطريق هذه الفكرة القديمة الجديدة وهي المعبِّر الموضوعي عن الرؤية لصين جديدة وهي التي مهدت لإعادة رسم ملامح الجيوبوليتيك في القرن الحادي والعشرين, فالمشروع هو مشروع تنمية اقليمي عالمي تهدف الصين من خلاله إلى تحقيق اعتماد متبادل مع الدول المشاركة وتحقيق شكل من أشكال التقسيم الدولي للعمل وفق رؤية جديدة بعيدة عن الهيمنة الأمريكية الغربية وتسعى من خلالها لربط اقتصاديات القارات الآسيوية والأوروبية والافريقية وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لإعلان الحرب التجارية على الصين في حقبة ترامب والاستمرار في عدائها للصين مع وصول بايدن ودفع تايوان للاستمرار باستفزاز الصين لإلهائها في خارجها القريب, وما توسع الانتشار العسكري الأمريكي في عدد من دول آسيا وجنوب شرق آسيا إلا محاولة لرسم ملامح تحالف جديد فكان طرح فتح مكتب لحلف شمال الأطلسي في طوكيو مع محاولات لاستنساخ الحلف في آسيا من أجل استنزاف الصين في بحر الصين الجنوبي خصوصاً مع سعي الدول المحيطة بالصين للدخول في مشروعها والبدء بتنفيذ مشاريع البنية التحتية وهو ما سيؤدي لتضارب المصالح الأمريكية مع الصينية فسعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التهويل والتخويف من المشاريع الصينية من خلال نشر الفوضى في آسيا لتدمير الأفكار الوطنية والاقليمية, والسعي لإعداد المنطقة لحصار الصين ومنع إمدادات الطاقة عنها من افريقيا وإيران, ورفع وتيرة التوتر الصيني مع تايوان ونشر أفكار من قبيل أنَّ الصين تعمل على إخضاع الدول عبر الديون للدخول في المشروع الصيني فباتت مكاناً للابتزاز في حين أن الصين تعمل على تحقيق مصالح الاقليم وتشجيع اللامركزية وتعمل على إبعاد أمريكا عن محيطها إدراكاً منها للدور الهدام الذي تقوم به.
في مقابل ذلك تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على لعب دور غير المكترث من التحريض وتسعى للتقرب من المسؤولين الصينيين وخاصة خلال مؤتمر شانغريلا الذي عقد العام الماضي في سنغافورة هذه المحاولات التي فشلت نتيجة الرفض الصيني لقاء الجانب الأمريكي قبل شطب العقوبات, وبالرغم من هذه المحاولات عملت أمريكا على الضغط لاستصدار بيان مجموعة السبع شمل عدة نقاط ضد الصين وهي:
1- عدم تهديد الأمن والاستقرار في تايوان.
2- عدم اضطهاد الأيغور.
3- تعزيز الديمقراطية في هونغ كونغ.
إنَّ هذا البيان يؤكد أنَّ سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على نشر الفوضى الخلاقة في منطقة آسيا بعد أن قامت بتجربة هذه النظرية في الشرق الاوسط ساعية لتحقيق التوجهات والرؤى التي تخدم سياستها في منطقة اسيا- الباسيفيك.
الصين والعلاقات الدولية الراهنة:
تمتلك الصين علاقات متشعبة تسعى من خلالها لإعادة التوازن للنظام الدولي والعمل لتأسيس نظام عالمي جديد مختلف فمنذ بداية القرن /21/ لوحظ النمو المتسارع للدور الصيني في مجالات مختلفة وبشكل خاص المجال الاقتصادي الأمر الذي ساهم في دفع الصين لتحقيق نمواً اقتصادياً كبيراً فحلت في المرتبة الثانية عالمياً متخطية اليابان كل ذلك بفعل التحولات الكبرى التي بدأت ملامحها مع الزعيم الصيني دينغ هسياو بينغ واستمرت حتى يومنا مع التطورات الكبيرة التي وضع أسسها نهج الرئيس شي جين بينغ الذي أسس لمرحلة جديدة تقوم على الاستمرار في سياسة صين واحدة واضعاً نصب عينيه رسم ملامح نظام دولي جديد قائم على العدالة في الوطن والسلام مع العالم هذه السياسة الممتدة لآلاف السنين ولقرون عديدة من أيام جوكيه ليانغ وسيما يي فنظريات تحقيق السلام ونشره متجذرة في الفكر السياسي والفلسفي الصيني وما محاولات الاستراتيجيين الصينيين إلا دليل على الوعي الفكري لديهم بأنَّ تحقيق السلام ينبع من الداخل وصولاً لتحقيق السلام العالمي.
فاستطاعت الصين الاستفادة من السياسة الأمريكية ومن الاستراتيجيات الكبرى فأعادت صياغتها وفق مصلحتها القومية وانطلاقاً من البنية الفكرية الصينية فما القوة الناعمة التي أوجدها جوزيف ناي إلا شكل من أشكال الفنون التي تحدث عنها صن تزو منذ آلاف السنين.
انطلاقاً مما سبق نستنتج أن السياسة الأمريكية تجاه الصين تقوم على:
1- الاحتواء ومحاولة إفراغ المشاريع الصينية من مضمونها الحضاري.
2- تقزيم المشاريع الصينية وإثارة مخاوف الدول والقوى الكبرى من تعاظم النفوذ الصيني.
3- نشر الفوضى في محيط الصين (الفلبين- كازاخستان..) بهدف تحويل أنظار هذه الدول عن الدخول في المشاريع الصينية والتحول نحو حل مشاكلها الداخلية وعرقة مشاريع الصين.
4- إثارة الذعر لدى الدول المنضوية في المشاريع الصينية من رزوحها تحت المديونية الصينية.
5- رفع حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية والعمل على تأسيس ناتو في شرق آسيا لتكبيل النفوذ الصيني- الروسي.
ورد فعل الصين هو اعتماد دبلوماسية هادئة قائمة على دفع الخصم لرمي أوراقه التفاوضية من خلال النفس الطويل في المفاوضة حيث استطاعت في كثير من الحالات خفض حدة التوتر وإبعاد شبح الحرب عن محيطها ليس الحرب الفعلية فقط بل إنَّها لم تصل لمستوى الحرب الكلامية.
مطانيوس الصفدي