اخترنا لك

الديماغوجيون المنتخَبون..

قمع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المحتجين في حديقة جيزي باسطنبول بعنف العام الماضي، وحظر موقعي فيسبوك ويوتيوب، وواجه ادعاءات خطيرة تتعلق بالفساد، ثم صُوِّر وهو يصفع أحد المتظاهرين.. غير أن لا شيء من ذلك كان مهماً الأسبوع الماضي عندما جعلته أغلبية من الأتراك أول رئيس منتخَب بالاقتراع المباشر في البلاد.

والواقع أن ثلة من مفكري القرن التاسع عشر، من أليكسس دو توكفيل إلى جاكوب بُركهاردت، حذرت من وضع الساسة البارعين في إلهاب مشاعر الجمهور والمنتشين بالفوز بالانتخابات في السلطة؛ غير أن الفوز الانتخابي للزعيم التركي ليس سوى أحدث مثال على الديمقراطية المنحطة. ذلك أن عدم الاكتراث بالحقوق المدنية وطغيان عقلية «نحن الأغلبية» بين الهندوس لم يمنعا –بل ربما ساعدا– صعود ناريندرا مودي إلى أعلى منصب سياسي في الهند هذا الربيع. ومن جانبه، حظي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمعدلات تأييد شعبي أعلى هذا العام بعد أن قام بضم شبه جزيرة القرم وهدد شرق أوكرانيا.

ويبدو أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قد انبهر بذلك فقال إن «الريح (الجديدة) التي تهب من الشرق» قد دمرت الواجهة المتداعية للديمقراطية الليبرالية. وفي تحول لافت، يأمل أوربان، وهو زعيم دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، أن يحاكي قياصرة الشرق الصغار وهم يرون تعطشاً قوياً بين شعوبهم إلى قوة ونشاط جديدين بعد فترة ركود. ولهذا الغرض، ربما يجدر به أن يستعين ببعض الأدوات الخطابية التي كان يستعملها الزعيم التاريخي الذي برع في هذا المجال. ففي كتابه الجديد حول التاريخ الاجتماعي الأميركي، «الجسر غير المرئي»، يصف ريك برلشتاين كيف نجح ممثل سينمائي سابق في إخراج مواطني بلده من ركود السبعينيات وإدخالهم في عهد جديد من زعامة العالم، حيث كتب برلشتاين يقول: «إن الناس تريد أن تصدق؛ ورونالد ريجان كان يستطيع أن يجعل الناس تصدق».

تباهي مودي بحجم صدره الذي يبلغ 142 سنتمترا، وحركات بوتين في رياضة الجودو، وميل أردوغان إلى أن يصبح عدوانياً وعنيفاً.. كلها أمور تهدف إلى استخدام حيلة الثقة التي كان يستعلمها ريجان. فمودي أعاد إحياء حلم «القرن الهندي» بعد النكسات الاقتصادية والشلل السياسي الذي قضى عليه؛ وأردوغان وعد الأتراك بدولة قوية اقتصادياً وبارزة دولياً بعد فترة طويلة من العزلة والفوضى والأنظمة غير التمثيلية. ومن جانبه، وجد بوتين ناخبيه بين شعب يشعر بالإذلال والخوف؛ حيث عانت روسيا في التسعينيات من أزمة اقتصادية أسوأ وفقدان أكبر للشرعية السياسية مما عرفته الولايات المتحدة خلال السبعينيات.

والواقع أن الزعماء الثلاثة جميعهم يمتلكون قواعد أيديولوجية مثل تلك التي كانت لدى ريجان بين الأصوليين المسيحيين ومثقفي المحافظين الجدد. فالعثمانيون الجدد في تركيا، ودعاة الوحدة بمنطقة أوراسيا في روسيا، والهندوس القائلون بالقرن الهندي في الهند.. جميعهم يؤكدون طموحهم الجيوسياسي بجرأة، تماماً مثلما كان يفعل أنصار ريجان. غير أن ثمة خطراً أكبر اليوم في البلدان التي تحتضن نسخاتها الخاصة من ثورة ريجان: ذلك أن الثقافات السياسية قد تجنح على المدى الطويل إلى اليمين المتطرف بدلا من يمين الوسط.

وعلى سبيل المثال، فالزعيم المجري أوربان المدعوم من حزب جوبيك المعادي للسامية بشكل واضح وصريح، يكرر اللغة الفاشية نفسها التي كانت سائدة في الثلاثينيات عندما يقول إن «الدولة المجرية ليست مجرد مجموعة من الأفراد وإنما مجتمع في حاجة إلى أن يكون منظماً وقوياً».

ومما لا شك فيه أن المعارضة الليبرالية في تركيا وروسيا تبدو عاجزة أمام مثل هذه التأكيدات الصاخبة بشأن المهمة والمصير الوطنيين. ولعل الهند فقط، بتنوعها السياسي والاجتماعي، لديها إمكانية لتحدي القوميين الهندوس بقوة.

وربما تفرض العقبات الاقتصادية -التي تتسبب فيها العقوبات في حالة روسيا، والضعف الجوهري في حالة الهند وتركيا– حداً لجنون العظمة لدى أولئك الساسة الذين يبرعون في إلهاب مشاعر الجمهور. غير أن الثقافة السياسية والبروباجاندا التي يروجون لها ستستمران لمدة طويلة. والشاهد هنا أن ثورة ريجان بقيت واستمرت حتى حين اشتدت مجدداً أعراض التراجع الأميركي، التي كانت قد ظهرت لأول مرة في السبعينيات.

غير أنه من ناحية أخرى، تستطيع الدول القوية والغنية أن تتحمل ترف التوهم لفترة أطول، مثلما تستطيع أن تحوِّل أشد وأقسى عواقب أخطائها إلى أناس آخرين، كما حدث في العراق. لكن ذلك بكل تأكيد لا يمثل خياراً بالنسبة لبلدان مازالت بعيدة عن القوة والثروة الحقيقيتين؛ ذلك أن كفاح شعوبها للحصول على الطعام والماء والكرامة والحرية، لا يمكن إلا أن يزداد صعوبة وتعقيداً جراء التعصب والتطرف.

في الخمسينيات، كتب المفكر الفرنسي رايموند آرون يقول: «إنه إنكار لتجربة قرننا أن نفترض أن الرجال سيضحّون بمشاعرهم من أجل مصالحهم»؛ والحال أن ثورة المعلومات منذ ذلك الوقت بالكاد أنتجت تعلقاً أكثر براجماتية بالمصلحة الذاتية. لذلك، فإن الديماجوجيين المنتخَبين مازالوا في زمننا هذا يستطيعون إغراء الرجال بالأوهام الكبيرة.

بانكاج ميشرا- كاتب هندي

المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي