مساحة حرة

عام جديد.. وجديده لا عودة إلى الوراء

في مقياس الزمن وعدد الأيام والسنوات، لم تستغرق الحرب العالمية الثانية حتى وضعت أوزارها ما استغرقته الحرب الإرهابية التكفيرية على سورية التي لم تضع أوزارها بعد..

فهل يحمل العام الجديد لسورية والسوريين بشائر الخلاص من أتون إجرام وحشي وهابي فرض عليهم بالحديد والنار والسواطير والسكاكين والنصال طوال السنوات الخمس الماضية ودفعوا بسببه أغلى ما يملكون؟.

هذا هو السؤال الذي يتردد على لسان كل سوري بعد أن كادت سنوات العدوان الحاقد المستعر تفقده الأمل وتقتل الرجاء في نفسه لكن صبر السوريين العظيم وتضحياتهم الجبارة ومقاومتهم الأسطورية وتمسكهم الشديد بوطنهم الموحد وسيادته المقدسة تركت درباً للعودة، وضوءاً في آخر النفق المظلم الدامي الطويل فكان ما كان في الأشهر الأخيرة من العام الحالي الذي نودعه قريباً حيث بدأنا نشهد معادلات تتغير جذرياً على الأرض، ومواقف تتبدل في السر والعلن ومن أعلى المستويات الدولية وانعطافات كانت إلى وقت قريب عصية على التراجع قيد أنملة أو الاعتراف بخطأ ما ارتكبوه بحق الشعب السوري ومستقبل أبنائه.

لماذا كانت الأشهر الأخيرة من العام الذي شارف على الرحيل أشهراً مبشرة أحيت الآمال في النفوس الظمأى للحسم مع القتلة ومشغليهم، لاشك في أن زنود بواسل الجيش العربي السوري المتعاضدة والمتكاتفة مع الصديق الروسي والحليف الإيراني وقوى المؤازرة من المقاومة اللبنانية هي التي صنعت المعجزة وقلبت السحر على الساحر وغيّرت قواعد الاشتباك وبدّلت المشهد الميداني على الأرض ليوفر ذلك مقدمة طبيعية لاجتماعات «فيينا1» و«فيينا2» ومن بعدهما اجتماع نيويورك لمجموعة الدعم الدولية لسورية ومن ثم صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2253 الذي صدّق في جوهره على ما كانت تدعو إليه الدولة السورية الوطنية وقيادتها منذ البداية، بالقضاء على الإرهاب أولاً وبالمسار السياسي والحوار السوري – السوري ثانياً والبقية تفاصيل.

لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الأشهر الأخيرة من العام الحالي المنتهية أيامه كانت الأحسن لسورية وحلفائها، وكانت الأسوأ لأعداء سورية وخصومها وهم كثر على أي حال، ولكن ثلاثة أطراف منهم كانوا رأس الحربة في تأجيج النار وتحريك طاحونة القتل وسفك الدم السوري، وهي الطرف التركي ممثلاً «بالسلطان» الأحمق الحاقد رجب أردوغان الذي وقع في شر أعماله عندما أوعز بإسقاط طائرة «السوخوي» وهي تقوم بقصف العصابات الإرهابية في الشمال الغربي لسورية أواسط تشرين الثاني الماضي، ففتح عليه هذا العمل الإجرامي الآثم أبواب جهنم وتعرّت أمام العالم علاقته الوثيقة بالإرهاب والإرهابيين على النطاقين الإقليمي والدولي، وانهالت عليه الصفعات الروسية من كل مكان التي تفاوتت بين قطع الاتصالات وإلغاء لقاءات مقررة سابقاً وعدم الرد على هواتفه، وضرب وتدمير أكثر من ألف وخمسمئة صهريج تحمل النفط السوري والعراقي المنهوبين له على يد «داعش»، إضافة إلى عقوبات فرضتها موسكو على أنقرة التي منيت بسببها بخسائر قدرت بعشرات المليارات من الدولارات، فضلاً عن قطع التعاون العسكري والتهديد بدفع أثمان باهظة أخرى.. كل ذلك تلته «الصفعة» التي تلقتها حكومة أردوغان على الصعيد الدبلوماسي، إذ وجدت نفسها وحيدة في خطوة أقدمت عليها بإرسال جنودها إلى شمال العراق (بعشيقة شمال الموصل)، ولاقت ردوداً قويّة من العراق ودول العالم مطالبة إياها بسحب قواتها، وراحت تماطل مرة في أنها ستسحب هؤلاء الجنود، وحيناً آخر بأنهم سيبقون حتى «تحرير» الموصل، ولكن المسؤولين الأتراك في كلتا الحالتين باتوا في وضع لا يحسدون عليه.

وأما الطرف الآخر الموغل في جرائمه الإرهابية وفي سفك الدماء السورية فهو مملكة آل سعود التي «أخذتها العزة بالإثم» فأقدم صبيتها الحكام الجدد على ارتكاب حماقة العدوان على اليمن وفي ظنهم أن «الاستيلاء عليه» يمكن أن يكون في غضون أسابيع، فغرقوا في حرب امتدت شهوراً من دون نتيجة فاضطروا أخيرا إلى الرضوخ للمفاوضات مع حركة «أنصار الله» ولكن حرب الاستنزاف بقيت مستمرة وقد استنزفت حتى الآن أكثر من سبعين مليار دولار، ورغم ذلك فشلت السعودية في مواجهة الشعب والجيش اليمني ومقاومته الشعبية رغم أنها شكلت ما سمته «التحالف العربي»، وألقت بكلّ ثقلها العسكري ضدّهم، واضطرت في نهاية المطاف إلى أن تخترع «تحالفاً» جديداً باسم «الإسلام» لتخفي هزيمتها، وهو «تحالف» لن تكون إنجازاته أفضل مما سبقه. وهل مَن هُزم في بقعة محدودة قادر على النصر في أرجاء العالم الإسلامي كله؟ فالخائب في أرضه وفي جواره لا يمكن انتظار «انتصاره» عبر القفار والبحار انطلاقاً من أوهام «الزعامة» العربية والإسلامية و«الدور المحوري» في المنطقة المشترى بالمال الفاسد.

وأما الطرف الثالث الذي وجد في الأزمة في سورية ضالته المنشودة للاستثمار وعقد صفقات السلاح وتلقي الرشا فهو فرانسوا هولاند وحكومته الأقل شعبية في تاريخ فرنسا وأوروبا، فساهم بإشعال الأزمة في سورية وتمادى في المشاركة بإرسال الإرهابيين إليها ودعمهم بالكثير لارتكاب الفظائع المروعة وأخيراً ارتد كيده إلى نحره وضربه الإرهاب في عقر داره، فارتكبوا المجازر الإرهابية أكثر من مرة في قلب باريس وذهب الأمن والأمان من عاصمة النور والعطور، وسالت دماء مئات الفرنسيين نتيجة سياسة هولاند الرعناء مع وزير خارجيته لوران فابيوس وأخيراً أرسل قاذفاته وحاملة الطائرات شارل ديغول أكبر حاملة طائرات فرنسية لمحاربة الإرهاب وهرول بعد أن وصل سكين الإرهاب إلى رقبته إلى موسكو يستجدي التنسيق معها وكان فابيوس أول من رفع يده في مجلس الأمن الدولي بالموافقة على القرار 2253 للتخلص من ورطة العلاقة مع الإرهاب.

لقد كان عاماً حافلاً بالأحداث والمآسي مرّ بالوطن العربي، لا لكوارث طبيعية، مثلما جرى في أمكنة أخرى من العالم، بل بشرية أي كوارث سبَّبها بشرٌ باعوا أنفسهم لطواغيت الفتن والفرقة والتقسيم لكي يسهل عليهم تمزيق الجسد العربي وتركه ينزف دماً قانياً في غير موضعٍ من الساحة العربية الشاسعة.

إنه عام الاكتظاظ بالألم والجراح والتشريد وتبديد الموارد العربية، خيّم على أمتنا وشعبنا، إنه عام التخمة بالقتل والذبح والتخمة في «الأحلاف»، كما لم يحدث في أي مكان آخر من العالم، تدور في سمائنا «أحلاف عربية، إسلامية، دولية، إقليمية»، تتواجه على أرض المشرق العربي وسمائه. أرض الحرْف والأبجدية والكتب المقدسة والشعر وألف ليلة وليلة، وشريان حياة العالم النفط كأنَّ التواريخ القديمة تعود «بالسلاطين»، و«الخلفاء»، بالملل والنِحل، تطلع علينا من بطون الكتب والشعاب والقرى والدساكر التي لم نسمع بأسمائها، وتنتضي السلاح.. يمكن لهذا الضجيج أن يتخذ من الأسماء ما شاء، لكنه، لا يعدو كونه إعادة إنتاج لوقائع قديمة لم تنطفئ نارها تماماً بل خمدت تحت الرماد، ثم عادت إلى الاشتعال مجدداً، بعدما تمَّ النفخ فيها.

لكن نهايات هذا العام لم تكن كما بداياته، والجديد فيها إنجازات للجيش العربي السوري ومحور المقاومة وحلفائه غير مسبوقة في القضاء على العصابات الإرهابية تؤسس لعام قادم سيكون عام الحسم وتطهير الأرض السورية من رجس الإرهاب ورفع راية الوطن مكللة بإكليل الغار الذي يعلن للجميع أن لا عودة إلى الوراء أبداً.

د. تركي صقر