اخترنا لك

السباق الاقتصادي الأميركي – الصيني ووطأة الدولار الأميركي

على الرغم من أن الاقتصاد الأميركي ما زال اسمياً أكبر اقتصاد في العالم، يُقدَّر حجمه بنحو 23 ترليون دولار عام 2021، بحسب صندوق النقد الدولي IMF، فإن الاقتصاد الصيني يبقى أكبر حجماً من الاقتصاد الأميركي من الناحية الفعلية، منذ عام 2017 على الأقل، إذا ما قيس بمقياس “معادل القوة الشرائية” (PPP)، أي بمقياس ما يستطيع اليوان الصيني أن يشتريه في الصين، لا خارجها.

يقلّل سعر الصرف الحالي بين اليوان والدولار الأميركي حجمَ الاقتصاد الصيني اسمياً. فلو قسنا الناتج المحلي الإجمالي الصيني (كمقياس لحجم الاقتصاد) بناءً على معادل القوة الشرائية، فإنه يصبح أكبر اقتصاد في العالم بقيمة تزيد على 26.6 ألف مليار دولار أميركي عام 2021، بحسب التقدير المحافظ لصندوق النقد الدولي، بينما تضعه الإحصاءات الرسمية الصينية عند نحو 29 ترليون دولار أميركي.

لا يهمّ كثيراً كيف يجعل اليوانُ الضعيفُ الاقتصادَ الصينيَّ “يبدو” أصغر حجماً مما هو عليه فعلياً. المهم أنه يخفض أسعار الصادرات من الصين، ويرفع أسعار الواردات إليها، ويدرّ الربح الوفير على تلك القوة الصناعية العظمى الصاعدة، ويجعل ممن يحاول المزاحمة في السوق الصينية كمن “يبيع الماء في حارة السقايين”، إذا صح التعبير.

لكن، على من يريد أن يجني دولارات أميركية أن يصدّر سلعه وخدماته إلى السوق الأميركية ويستثمر فيها. وما زالت الولايات المتحدة الأميركية أكبر مستورِد في العالم، إذ بلغت قيمة وارداتها السلعية عام 2021 أكثر من 2.8 ترليون دولار، بينما بلغت واردات الصين أكثر من ألفي مليار دولار، أي ترليونين، إلاّ أن نسبة أكبر من الواردات الصينية هي مدخلات إنتاجية (نفط وغاز وخامات ونحاس وحديد… إلخ)، بينما نسبة أكبر من مجموع الواردات الأميركية تمثل سلعاً مصنَّعة، استهلاكية ورأسمالية.

هذا يعني أن الصين تستورد أساساً كي تنتج، بينما الولايات المتحدة تستورد أساساً كي تستهلك.

حجم المستوردات الهائل أحد أهم مصادر القوة الأميركية
إذاً، من يُحرَم من التصدير إلى السوق الأميركية، الأكبر في العالم، لو فُرِضت عليه عقوبات أميركية تمنعه من ذلك، سيخسر أكبر زبون للمستوردات في الكرة الأرضية بأسرها. وهذا أحد أهم مصادر قوة الولايات المتحدة. ولا أحد يدرك مثل هذه النقطة أكثر من الصين، التي تمثل أكبر مصدِّر للولايات المتحدة الأميركية، وبلغت صادراتها إلى السوق الأميركية عام 2021 أكثر من 576 مليار دولار.

كذلك، بلغ الفائض التجاري الصيني (الفارق بين الصادرات والواردات)، عام 2021 الفائت، أعلى مستوى له في تاريخه، وربما أعلى مستوى يبلغه أيّ فائض تجاري في أي بلد في أي وقت، أكثرَ من 676 مليار دولار، منها 396 مليار دولار هي فائض الصين التجاري مع الولايات المتحدة الأميركية وحدها (مع أن فائض الصين التجاري مع الولايات المتحدة عام 2021 يبقى أقل من الفائض عام 2018، عندما بلغ أكثر من 418 مليار دولار).

حقّقت الصين هذا الفائض على الرغم من تقنين الكهرباء دورياً في بعض المناطق الصناعية في الصين، وأزمة شح الرقائق الإلكترونية التي تدخل في صناعة الهواتف الذكية وغيرها، وعلى الرغم من العوائق الجمركية وغير الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، والتي ما برحت قائمة، ومن زيادة الواردات الأميركية إلى الصين 33% عن عام 2020، بموجب اتفاقية مع إدارة ترامب، أسِفت الصين لأنها لم تتمكن من التقيّد بها تماماً!

التصدير إلى السوق الأميركية هو، في المقابل، أحد أهم مصادر مراكمة القوة عند الصين في صعودها نحو القمة. من هذه الزاوية، تعمل الصين على تحويل التهديد إلى فرصة. لذلك، فإنها كثيراً ما تتحاشى تصعيد الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية، ما عدا فيما تعتبره شأناً سيادياً مباشراً، مثل تايوان وجينجيانغ وبحر الصين الجنوبي. بيد أن إدارة بايدن ليس من مصلحتها، في الوقت الراهن، أن تضيّق على المستوردات الصينية أكثر مما فعلت إدارة ترامب، لأن ذلك سيساهم في ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، في ظل موجة تضخمية متعالية، تمثل أزمة ما يعرف بسلاسل الإمداد، التي خفّضت عرض السلع، أحد أهم أسبابها العرضية (انظر “توقعات الاقتصاد العالمي عام 2022″، إبراهيم علوش، الميادين نت).

سلاسل الإمداد تلك يمتد كثير منها إلى سور الصين العظيم. لذلك، فإن تقليل عرض السلع الصينية في السوق الأميركية، بصورة أكبر الآن، سوف يزيد في ارتفاع الأسعار ويعقّد الأمور معيشياً، وبالتالي سياسياً، وهذا سيصبّ في جيب كل من الحزب الجمهوري وترامب، وثمة انتخابات على الأبواب، بعد ثمانية أشهر تقريباً، في الـ8 من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لـ435 مقعداً في مجلس النواب الأميركي، أي كلّه، و34 مقعداً في مجلس الشيوخ، أي ثلثه. ويسيطر على مجلس النواب الحالي الحزب الديمقراطي، حزب الرئيس بايدن، بأغلبية هشة، بينما يسيطر الجمهوريون على مجلس الشيوخ بصوت واحد، من أصل مئة، وهو أحد التعابير عن الشرخ العمودي في المجتمع الأميركي، والذي يُعيق حركة إدارة بايدن، وأيّ إدارة أميركية، بصورة كبيرة.

احتياطيات العملة الصعبة الصينية مصدر قلق كبير للولايات المتحدة
لا يعني ذلك البتة أن النخبة الأميركية الحاكمة غافلةٌ عن تحوّل الصين، بفضل فوائضها التجارية المتراكمة أساساً، إلى أكبر مالك لاحتياطيات العملة الصعبة في العالم، والتي بلغت 3.4 ترليونات دولار، تليها اليابان، باحتياطيات تبلغ 1.4 ترليون دولار، تليها سويسرا بما يزيد على ترليون دولار، تليها روسيا ثم الهند ثم تايوان ثم هونغ كونغ ثم كوريا الجنوبية ثم السعودية ثم سنغافورة ثم البرازيل ثم ألمانيا، باحتياطيات تبلغ، تنازلياً، بضع مئات من مليارات الدولارات لكلّ منها… لتأتي الولايات المتحدة الأميركية بعدها كلها، في المرتبة الـ13 عالمياً، باحتياطي مقداره 251 مليار دولار تقريباً.

من البديهي أن احتياطيات العملات الأجنبية ليست كلها بالدولار الأميركي، لكنها مقوَّمة بالدولار الأميركي. وهي تضم ذهباً، و”حقوق السحب الخاصة” SDR’s، التي يصدرها صندوق النقد الدولي (لا يوجد منها معادل ورقي أو معدني)، ومعظم احتياطيات الولايات المتحدة منها، وغيرها من الأصول السائلة.

المفارقة أن ما تحتفظ به الولايات المتحدة الأميركية مثلاً من العملات الأجنبية، مثل اليورو والين الياباني، يتراوح منذ سنوات حول 40 مليار دولار فحسب، وهو مبلغ تافه بالنسبة إليها. فهي لا تشعر بأنها في حاجة إلى مراكمة احتياطي كبير من العملات الأجنبية ما دام الدولار الأميركي، الذي تطبعه هي، هو مَلِك غابة المال الدولية، والواقع أنه ما برح كذلك بعنفوان اليوم، بالرغم من تقهقر مواقعه.

الدولار كمفصل مركزي في الهيمنة الأميركية
شكل الدولار، في الربع الأول من عام 2021، بحسب إحصاءات الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، نحو 60%، في المتوسط، من احتياطيات العملات الأجنبية في البنوك المركزية حول العالم، يليه اليورو بنسبة 21%، لتتوزع الـ19% الباقية بين مجموعة من العملات الرئيسة، مثل الين الياباني (6%)، والجنيه الإسترليني (5%)، واليوان الصيني (2%) الذي دخل على الخط منذ بضع سنوات فحسب، بنسبة مجهرية راحت تزداد عاماً بعد عام.

صحيحٌ أن نسبة الدولار الأميركي من الاحتياطيات العالمية من العملات الأجنبية كانت 71% من المجموع عام 2000، وصحيحٌ أن المستثمرين الأجانب، من رجال أعمال وحكومات، خفضوا من شرائهم أذونات الخزينة الأميركية (أدوات الدَّين القصير المدى، والتي تصدرها الحكومة الأميركية)، من 50% عام 2015 إلى 33% عام 2021 (وهناك توجه صيني وروسي منهجي للتخلص منها)، لكن الحقيقة تبقى أن 60% من الإيداعات والديون بالعملة الصعبة في البنوك خارج الولايات المتحدة هي بالدولار، وهذه نسبة تعلو وتهبط بين عامٍ وآخر، لكنها تتراوح حول 60% منذ ما قبل عام 2000.

كما أن 96% من فواتير التجارة الخارجية في القارة الأميركية، و74% منها في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، و79% منها في سائر العالم، ما عدا منطقة اليورو، يتم إصدارها بالدولار الأميركي؛ أي أن التجارة الدولية تسعّر بالدولار الأميركي أساساً. أمّا في منطقة اليورو، فإن نسبة الفواتير بالدولار تتراجع إلى نحو 25% ليهيمن اليورو. وكل ما سبق يزيد في الطلب العالمي على الدولار الأميركي لأغراض التجارة الدولية، فالواقع هو أن السلع الأساسية في العالم، من النفط إلى القمح… إلخ، مسعَّرة بالدولار.

الأهم من هذا هو النهم العالمي للدولار الورقي في كل دول العالم، كعملة مفضَّلة للتداول بين المواطنين غير الأميركيين. وهي شراهة أدت إلى أن تصبح نصف كمية الدولارات المطبوعة تاريخياً في الولايات المتحدة خارجها. وبحسب إحصاءات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فإن غير الأميركيين يمسكون بنحو ترليون دولار أميركي، أي نصف الدولار الورقي المتداول تقريباً.

هذا يعني أن الأثر التضخمي لطباعة النقود في الأسعار في الولايات المتحدة ينخفض بقيمة النصف إذا أخذنا هذا العامل وحده، وسبقت الإشارة إلى غيره أعلاه؛ أي أن ثمة وسادة دولية تخفّف بشدة وطأةَ طباعة النقود على مستوى معيشة المواطن الأميركي، على حساب سائر دول العالم. فالاحتياطي الفيدرالي الأميركي يستطيع أن يطبع النقد، وأن يشتري الأميركيون به سلعاً وخدماتٍ وأصولاً غير أميركية. ولهذا، يصل إلى أيدي غير الأميركيين أصلاً، وأن يستهلكوا خارج حدود ما تسمح به إمكانات اقتصادهم باختصار، لأن سائر دول العالم تطلب الدولار، وتحتفظ به، فلا يعود ذلك الدولار إلى الولايات المتحدة ليُحدث أثراً تضخمياً، ويُضعف القوة الشرائية للعملة الأميركية.

لهذا، راكمت الولايات المتحدة أطول سلسلة عجز تجاري وأضخمها في تاريخ الدول والاقتصادات، عاماً بعد عام، من دون أن يرفّ لها جفن، لأن ذلك لا يرتدّ عليها انهياراً في عملتها، كما يرتد على أي دولة أخرى في العالم تُراكِمُ سلسلة عجوزات أصغر كثيراً، على فترات أقصر كثيراً.

الدولار هو العملة السائدة على احتياطيات البنوك المركزية، وعلى المالية الدولية والتجارة الدولية، وعلى التداول العالمي بغير العملات المحلية. وهذا لم يحدث عفوياً، بل كان من نتائج الحرب العالمية الثانية، وفُرض مؤسسياً من خلال اتفاق “بريتون وودز” عام 1944. وبعد أن تخلّى الرئيس الأسبق نيكسون عن مسؤولية الولايات المتحدة في تحويل الدولار بأيدي الأجانب إلى ذهب في بداية السبعينيات من القرن الماضي، بعد أن طبعت أكثر كثيراً مما يفترض أن يوازيه من ذهبٍ لديها، ظل الدولار عملة العالم تحت وطأة قوة الولايات المتحدة وأذرعها، بالقوة باختصار، لا قوة المارينز وحاملات الطائرات فحسب، بل قوة العمل الاستخباري والانقلابات والاغتيالات، وقوة “القاتل الاقتصادي”، وقوة النموذج الأميركي في الحياة.

التفسير العلمي لظاهرة محدودية تأثّر الأسعار في الولايات المتحدة بطباعة الدولار
من منظور علمي، ثمة معادلة وُضعت، قبل أكثر من قرنين، تفسّر الأمر، وهي معادلة كمية النقد في التداول (Quantity Theory of Money).

لو افترضنا أن تسارع تداول النقد، أي معدل انتقاله بين الأيدي في عامٍ واحد، هو Velocity (V)، ولو افترضنا أن كمية النقد في التداول هي M، كناية عن Money، وأن معدل الأسعار نرمز إليه بـP، كناية عن مصفوفة الأسعار Prices، وأن كمية السلع والخدمات المنتجة هي Q، Quantity، فإن معادلة كمية النقد في التداول هي: MV = PQ، بحيث إن معدل تداول النقد ثابت، تحدده عوامل مؤسسية وثقافية، وكمية الإنتاج Q تحدّدها كمية الموارد المتوافرة، وهي بالتالي ثابتة تحت ظروف التوظيف الكامل للموارد المتاحة أو القابلة للتشغيل. وبما أن Q وV ثابتان، في المدى القصير، فإن ذلك يعني أن زيادة كمية النقد المتداول M تؤدي بالضرورة إلى ارتفاع معدل الأسعار P. وهذا قانون عام ينطبق على أي اقتصاد في أي دولة.

لكن، ليس على الاقتصاد الأميركي! لأن جزءاً من الدولار الأميركي، الذي يُصدره الاحتياطي الفيدرالي، يُستخدم من أجل زيادة كمية Q بصورة مصطنعة من الخارج، بحيث لا تزيد الأسعار في الداخل بنسبة زيادة كمية النقد في التداول، بما أن الكمية التي يمكن استهلاكها أميركياً لم تعد مقيَّدة بالموارد المتاحة. وبالتالي، يمكن أن تزداد بغير الموارد المتاحة أميركياً. وما دام الدولار الأميركي لا يعود إلى الولايات المتحدة، ككتلة كبيرة، فإنّ في الإمكان الاستمرار في هذه العملية إلى ما لا نهاية، ما دام الدولار هو عملة العالم.

نحو استراتيجية عالمية لزعزعة هيمنة الدولار
يفسّر ما سبق لماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تستمر في عجوزاتها التجارية المزمنة هكذا، لكنه لا يعني أنها تستطيع أن تفعل ذلك من دون أي قيود. ففي فترة كورونا، أدّت السياسات النقدية والمالية التوسعية، وطباعة النقد بغزارة، إلى بعض الارتفاع في الأسعار، كان يمكن أن يكون أعلى بصورة أكبر لولا هيمنة الدولار الأميركي على العالم. وهي هيمنة ستدافع عنها الولايات المتحدة الأميركية بكل وسيلة قذرة أو رمادية ممكنة. لهذا، تتعرّض الدول، التي تسعّر نفطها أو خاماتها بغير الدولار، لغضب الإدارة الأميركية، مع أن التعامل بغير بالدولار هو المطلوب بالضبط من أجل زعزعة هيمنته العالمية.

هل يعني ذلك أن الإدارة الأميركية مرتاحة إلى أن تترك الأميركيين يستهلكون السلع الصينية، من ألعاب كومبيوتر وهواتف ذكية وغيرها، كما حدث خلال أزمة “كوفيد”، من دون أن تقلق من تراكم احتياطيات العملة الصعبة في الصين؟

بالتأكيد لا، لأن الصين تمتلك مشروعاً قومياً في جوهره، وإن كان مشتبكاً عالمياً في استراتيجياته. لذلك، عملت الولايات المتحدة على تقليص مستورداتها من الصين بنسبة 5% خلال فترة 2020-2021 عما كانت عليه قبل “كوفيد”، في مقابل زيادة المستوردات الأميركية من فيتنام 57% خلال الفترة ذاتها، بعد أن أصبحت فيتنام طفلها المدلَّل، ومن سويسرا 61%، ومن تايوان وتايلاند وماليزبا، التي شهدت كلٌّ منها زياداتٍ كبيرةً في صادراتها إلى الولايات المتحدة.

المهم، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أن تتمكن من الاستمرار في الاستهلاك المموَّل بالدولار غير المغطى إلاّ بالطلب العالمي عليه، على أن: 1) لا يذهب ذلك الدولار إلى قوى دولية أو إقليمية أو محلية معادية للهيمنة الأميركية؛ 2) يظلّ الدولار المهيمن هو الثمرة الشيطانية للهيمنة الأميركية على مفاصل الاقتصاد العالمي.

من تجربة الصين، نستطيع أن نرى أن البرنامج المناهض للهيمنة الأميركية هو النقيض على الصعيدين. وإذا لم تعد الولايات المتحدة هي القوة الأولى اقتصادياً، فإلى متى يمكن أن تستمر هيمنة الدولار مالياً بقوة المؤسسات القديمة فحسب؟!