نهاية نظام الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط
لم يقل وزير الحرب الأميركي تشاك هيغل جديداً عندما صرح منذ أيام أمام “معهد واشنطن” بأن “النظام القديم في الشرق الاوسط يزول وما سيحل محله ما زال مجهولا”، بل الأصح أنه زال وانتهى الى غير رجعة، ولكن البديل نعم ما زال مجهولاً الى حد ما. منذ نهاية الحرب الباردة تمكنت واشنطن من أن تكون قوة هيمنة أحادية في الشرق الأوسط ولم يبدأ ذلك بالتغير الا مع نهاية التسعينيات. لقد نجحت الولايات المتحدة في تحييد مصر والعراق من بنية القوة في المنطقة فيما رسخت تحالفها مع تركيا و”اسرائيل”، الا أن العقبة العصية أمام استمرار هذه الهيمنة كانت الدور الايراني الذي رعى وأدار حلفاً متعدد الطبقات والمهام ومتداخلاً بشكل استراتيجي امتد من سورية الى لبنان وفلسطين المحتلة مع عمق شعبي يطال مجمل المنطقة العربية.
توافق هيلاري ليفيرت (من معهد جاكسون) على هذه الخلاصة،حيث رأت بأن سنوات ما بعد 1990 أتاحت للولايات المتحدة بناء “هيمنة في الشرق الأوسط، أي نظام اقليمي امني، سياسي، وشديد العسكرة تقوده الولايات المتحدة، واليوم هذا النظام يختفي أمام أعيننا…. في ظل تغير دراماتيكي في ميزان القوى الاقليمي بعيداً عن الولايات المتحدة لمصلحة ايران وحلفائها”.
أدرك الأميركيون بداية هذا التحول في ميزان القوى منذ العام 2000، مع الانسحابات الاسرائيلية من لبنان وغزة ولاحقاً هزيمتي العراق وأفغانستان، ولكن ادارة بوش اعتقدت أنها قادرة على عكس عقارب الساعة من خلال توجيه ضربة استباقية الى المحور الصاعد أي محور المقاومة. في العلاقات الدولية توجد نظرية بخصوص صعود وهبوط قوى الهيمنة وهي تفسر الحرب بين القوى الكبرى كنتيجة لتوازن القوى حينها تبادر القوة المهيمنة الى توجيه “ضربة استباقية” الى القوة “الصاعدة” التي تهدد موقع القوة المهيمنة على رأس النظام الدولي أو الاقليمي، مثلاً يوجد اليوم بعض المتطرفين الأميركيين (أمثال جون بولتون) ممن يدعون لضربة أميركية استباقية للصين الصاعدة. وعليه كانت حرب 2006 هي ضربة “استباقية” أميركية لمحور المقاومة في محاولة أخيرة لاعادة تمكين الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط ووقف صعود محور المقاومة.
كان فشل عدوان تموز بمثابة اعلان عن بداية سقوط النظام الاقليمي القديم في الشرق الأوسط وبدء النظام الاقليمي الجديد الذي ستتراجع فيه هيمنة الولايات المتحدة في الاقليم. هذا الفراغ الأميركي كان ضرورياً لاسقاط النظام العربي الرسمي التابع لها، وكذلك اتاح لروسيا والصين اعادة تعريف مصالحهما القومية في المنطقة بشكل أكثر عمقاً وجرأة. نظرياً، يؤدي سقوط قوة الهيمنة الأحادية الى فترة من الفوضى والاضطراب نتيجة اختلال النظام الذي كانت ترعاه تلك القوة بالاضافة الى التنافس لاشغال الفراغ، وهذا بالضبط ما يحصل في الشرق الأوسط حالياً. وهو ما استجابت له واشنطن بمرونة من خلال الدفع بتركيا وقطر الى المشهد الاقليمي لملء الفراغ والعمل كواجهة للمشروع الأميركي. هدف واشنطن من ذلك هو بناء توازن قوى اقليمي من دون أن تكون بحاجة للتورط مباشرة في المنطقة، وهذا التوازن لا يمكن أن يكتمل الا من خلال اسقاط سورية في يد المحور الأميركي، وهذا ما يفسر جزئياً حدة المواجهة الاقليمية ـ الدولية في سورية.
تمكنت ايران وحلفاؤها من تحقيق انجاز تاريخي في زعزعة نظام الهيمنة الأميركية ـ الاسرائيلية في الشرق الأوسط، ولكن الخصم عنيد، ومرن وموارده هائلة، ويحاول ترميم ما خسره، لذا التحدي الجديد لهذه القوى وشعوب المنطقة يكمن في ايجاد بنية اقليمية يبقى فيها الأميركي والاسرائيلي عاجزَين عن فرض أجندتهما السياسية مع فتح أفق لخلق وتمتين التعاون الاقليمي على مستوى المنطقة. لكن هذه العملية بحاجة لمسار طويل، لا بد من الاستمرار في استنزاف واضعاف الولايات المتحدة لأن هذا سيدفع حلفاء واشنطن في المنطقة نحو امكانية البدء بتعزيز التعاون الاقليمي من خلال اطر مؤسساتية متدرجة لتعزيز التواصل الاقليمي وبناء تفاهمات سياسية وأدوات تنسيق وتشاور وآليات لحل الخلافات وصولاً الى شراكات استراتيجية ومنها الى تكامل اقتصادي، سياسي، وأمني.
وفي ظل هذه الفوضى ترتسم صورة الشرق الأوسط على شكل خرائط العصور الوسطى (حسب تعبير روبرت كابلان) حيث لم تعد الحدود السياسية قائمة الا بقدر الضرورة، فيصبح النفوذ السياسي عابراً للحدود الوطنية بشكل ضبابي، متداخلا ومعقدا، ولا سيما أن الغالبية العظمى من دول المنطقة هي دول ضعيفة وفاشلة والحكومات المركزية مشلولة بالكامل. في هذه المرحلة ترتسم صورة النظام الاقليمي الجديد بتوازنات وقواعد جديدة، ستتزايد أهمية القوى الاقليمية بالتحديد ايران وتركيا، سيصبح دور القوى الدولية في الشرق الأوسط أكثر بروزاً، دور أكثر حضوراً للجماهير والقوى غير الدولية، وصعود للهويات والحساسيات التاريخية. لا يبدو أي من المحورين معنيا بحرب اقليمية كبرى. المحوران يتصارعان ولكن بعض قواعد اللعبة المتفق عليها ضمنياً تؤدي دور صمامات الأمان.
هي لحظة تأسيسية في تاريخ المنطقة، كل خطأ يمكن أن يتحول الى خطأ قاتل، وعلى صانعي القرار محاولة التركيز على فكرة “المصالح المشتركة” لأبناء المنطقة بدل الغوص في الحساسيات الثقافية. كل موقف اليوم يجب أن يستند على حسابات بعيدة الأمد من دون الوقوع ضحية الخوف من اللحظة الراهنة. محور المقاومة أنجز ما لم يكن بالحسبان، لكن الأمور بخواتيمها، هي فرصة تاريخية تستحق كل التضحيات وتحتاج لكثير من الوعي والرؤية. فرصة تكوين شرق أوسط خارج الهيمنة الأميركية وقابل للتطور لما فيه خير شعوبه في الحرية والكرامة والعدالة.
البعث ميديا – «العهد» الإخباري