line1مساحة حرة

أردوغان ووهم السلطنة

الرفيق:  د . خلف المفتاح ||

تبدو مقولة إن التاريخ يعيد نفسه تقارب الواقع الحالي تماماً بالنظر إلى خارطة الصراع في المنطقة العربية، والإقليم عموماً، وذلك بالعودة إلى منتصف القرن التاسع عشر، واستحضار ما أطلق عليه المسألة الشرقية، أي وضع الامبراطورية العثمانية الآفل نجمها، والتي سميت الرجل المريض، والصراع الغربي على تقاسم إرثها الاستعماري، وهي التي جاءت تحت عنوان إقامة خلافة إسلامية جامعة انتهى بها الأمر إلى أوصال مقطعة، سبقه سعي محموم لتتريك مكوناتها بعد إدخالها في مربع التخلف، والتبعية، والظلام، وعلى الرغم من أن الخلافة الإسلامية قد ألغيت عملياً في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وأعلن قيام جمهورية تركية علمانية أريد لها أن تكون على قطيعة مع ماضيها بمكوناته الثقافية، إلا أن حلم استعادة تلك الامبراطورية لم يغادر عقول ومخيلة بعض القوى، والساسة في تركيا، وعلى الرغم من أن الجمهورية التركية قد انحازت إلى المعسكر الغربي في إطار صراع الأقطاب إبان الحرب الباردة، وأصبحت عضواً في حلف الناتو، إلا أن الهوية الدينية لتركيا، وسجلها السياسي لم يؤهلاها لتكون عضواً في الاتحاد الأوروبي الذي بقي محافظاً على كونه نادياً سياسياً  مسيحياً، ومع نهاية الحرب الباردة، وشعور الساسة  الأتراك بأن الوظيفة، والأهمية التي وفرها الموقع الجيوسياسي لتركيا بدأت بالتآكل أمام الخرائط السياسية الجديدة التي بدأت إرهاصاتها الأولى تطفو على حوض السياسة العالمية، استدار الساسة الأتراك شرقاً وجنوباً، وهنا رفعوا اليافطة الجيوثقافية، وتذكروا أنهم ينتمون إلى الشرق تاريخياً، وثقافياً، فالتحق الرأس الأوروبي بالجسد الآسيوي الذي اكتشف أنه كان يرغب العيش في عالم لا يشبهه.
الاستدارة التركية كان لا بد لها من حامل جديد، وحفلة تنكرية، وهذا يستلزم، مرحلياً وتكتيكياً، وضع “الطاقية” الأتاتوركية جانباً،  والعودة “للطربوش” التركي التقليدي الذي وضع لفترة طويلة في غرفة الإنعاش، فكان حزب العدالة والتنمية حصان طروادة الجديد، خاصة وأنه قدم نفسه على أنه يحمل علمانية الغرب، وروحانية الشرق، وهنا لابد من الإشارة إلى الهدف من ذلك التسويق، أو لنقل التوظيف المستقبلي لتلك الصورة في إطار لعبة الرقص في العرسين، وهو أن تبقى الأبواب، والخيارات مفتوحة أمام الساسة الأتراك للمناورة شرقاً وغرباً في إطار لعبة البحث عن مناطق النفوذ، والقفز فوق أكثر من حاجز.
وعبر الصورة الجديدة، وطريقة استثمارها، حقق الساسة الأتراك نجاحاً ملحوظاً، مستفيدين من مسألتين أساسيتين هما: حصول فراغ استراتيجي في منطقتنا مثّله تلاشي الدور المصري، وغياب تحالف استراتيجي يجمع قوى وازنة في المنطقة تمثلها كل من سورية، ومصر، والسعودية، والاستثمار في الورقة الفلسطينية في ظل خلافات بينية تزامنت مع صلف وعنت صهيوني غير مسبوق أمعن قتلاً، وتنكيلاً بالفلسطينيين دونما رادع، وما شكله ذلك من أذية نفسية أصابت شعوب المنطقة، لما لفلسطين من مكانة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، وهنا وجد التركي الفرصة مناسبة للجلوس على الكرسي الفلسطيني ليكسب من خلاله تعاطف مئات الملايين من العرب والمسلمين، خاصة وأن حصار غزة قد وفّر للتركي فرصة إضافية كي يشتغل أكثر في تلك الورقة، ويمعن في استثمارها إلى أقصى ما مكّنه من استجماع جمهور واسع.
جملة القول: استطاع الساسة الأتراك الاستثمار الأمثل في العواطف العربية والإسلامية عبر سياسات هي في جوهرها براغماتية بامتياز، بدليل تناقض المواقف، فكيف يمكن للتركي أن يكون مع الفلسطيني، والسوري، والإيراني، وهو ينصب رادارات الأمريكي على حدود جيرانه، خاصة وأن الكيان الصهيوني يحظى برعاية وحماية الناتو، وتركيا عضو أساسي فاعل فيه؟.. الأمر الآخر كيف للتركي أن يوزع وصفات في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو يمنع عن أكثر من نصف سكانه التمتع بأبسط الحقوق الأساسية للمواطن والإنسان، بحسب شرعة الأمم المتحدة، كاللغة، وإقامة الشعائر الدينية، إضافة إلى حجب مواقع التواصل الاجتماعي، وتسريح العديد من القضاة والعسكريين الذين لا يتوافقون مع خط أردوغان السياسي، وسطوته على المؤسستين العسكرية والقضائية؟!.. أسئلة كثيرة جديرة بالطرح عند الحديث عن السياسة التركية، وتناقضاتها الذاتية، وأعتقد أنه من المهم للأتراك إن أرادوا اتباع ما أطلق عليه منظّر السياسة التركية أحمد داوود اوغلو سياسة تصفير المشاكل، أن يتخلوا عن أحلام تاريخية مختبئة في ذاكرتهم الجمعية، يعتقدون أنهم قادرون على تسويقها على طريقة نبيذ قديم في زجاجة جديدة، متجاهلين ذاكرة عربية حية لا تعرف الخرف.