ثقافة وفن

البطريرك “محمد” غريغوريوس الرابع.. صورة بالأسود والأبيض عن سورية الحضارة

رثاه مفتي البقاع اللبناني أمام تابوته باكياً وصائحاً: “لو أجاز لنا ديننا الاعتراف بنبي بعد محمد لقلت أنت. رضوان الله ورحماته عليكَ يا محمد غريغوريوس”..إنه البطريرك غريغوريوس الرابع.

اسمه غنطوس الحدّاد ابن جرجس بن غنطوس من عبيه ولد في الأول من تموز من سنة 1859 تلقى علومه الابتدائية والتكميلية في مدارس عبيه البروتستانتية، ومع مرور السنوات كان غنطوس يتولى مناصب أعلى إلى أن نصّب “محمد” غريغوريوس بطريركاً عام 1906 بالكاتدرائية المريمية بدمشق، حيث تسلّم عصا الرعاية من يد مطران حماه غريغوريوس الأول في المطارنة.

بدأت الحرب العالمية الأولى وانتشرت المجاعة في سورية ولبنان بسبب الأتراك الذين وضعوا أيديهم على المحاصيل الزراعية وصدّروها إلى ألمانية والنمسا وساهم الجراد بالقضاء على الزراعة أيضا فقلّت المواد الغذائية وارتفعت أسعارها، قرع المحتاجون باب البطريركية، فتح غبطته الباب لهم..

قيل الكثير عن مواقفه النبيلة الكثير، منها أن مجموعةٌ من النسوة المسلمات بدمشق قمن بمظاهرة يشتكين فيها من الجوع وترامين على قدميه وهو في عربته، فأمر سائقه بالعودة إلى دار البطريركية حيث اختلى بنفسه في غرفته وركع مصلياً من الساعة الرابعة ظهرا حتى الساعة الحادية عشر ليلا، أبصر “خادم” البطريركية غرفة البطريرك مضاءة فطرق بابها سائلاً إن كان يرغب بالعشاء، امتنع غبطته وقال: “أطعِم ذلك لأول فقير يمر صباح غدٍ بقربنا، أما أنا فيكفيني نصف رغيف مع قليل من الملح والزعتر”.

ولأن دار البطريركية تحولت إلى مقصد للجائعين من كل الأديان شحّت المؤن فيها، صادف يوما أن مسلماً ومعه أسرته حاولوا الدخول كالعادة لتناول الطعام، فاستوقفهم قواص البطريركية قائلا: “إن ما تبقى من الخبز لدينا لا يكاد يكفي أولادنا”. سمع البطريرك الحديث، فصرخ في جه  قواصه ونهاه عن فعل ذلك وطلب منه رغيفاً فأحضره له، وقال: “انظر إلى هذا الرغيف من وجهيه هل تجد أن فيه وجهاً يختلف عن الآخر أم أن كليهما خبز، إن الله خلق الجميع كرغيف الخبز هذا”. ثم أدخلهم وأطعمهم. وزاد البطريرك على ذلك بأن منح الرجل ليرتين ذهبيتين.

كان الأمير فيصل بن الشريف حسين أمير مكة يهيئ الأجواء في دمشق لقيام الثورة ضد العثمانيين بقيادة والده وبالتعاون مع الحلفاء، كان الأمير فيصل دائم الاتصال بالبطريرك غريغوريوس بقصد حصوله على الدعم من الرعية الأرثوذكسية، قام البطريرك بمبايعة المؤتمر السوري الأول فيصل ملكاً على سورية ربيع عام 1920.

وبعد معركة ميسلون في 20 تموز 1920 واستشهاد البطل يوسف العظمة ومعظم المجاهدين، دخل الفرنسيون إلى دمشق في اليوم ذاته مستعمرين، فلم يجد الملك فيصل وحكومته مفراً من مغادرة دمشق إلى شرقي الأردن عن طريق القطار. في محطة القدم وقف الملك فيصل ينظر إلى دمشق نظرة الوداع الدامعة لأنه لا أحد خرج لوداعه، وإذ به يشاهد البطريرك غريغوريوس الذي تقدّم منه ومدّ له يده قائلاً: “هذه اليد التي بايعتك قبلاً باقية أبداً على العهد”.. دمعت عينا فيصل وانحنى أمام هذا الشيخ الجليل وحاول تقبيل يده لكن البطريرك باركه وقبّله بعدما سحب يده متمنعاً.

توفي غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع في 12 كانون الأول 1928 وشيع جثمانه في موكب مهيب شاركت فيه العديد من الشخصيات والفعاليات الدينية والرسمية، بالإضافة إلى رعيته، انضم إلى المشيعين خمسون ألفا مسلما، جرى له استقبال رسمي أطلقت فيه المدفعية مائة طلقة وطلقة، شارك عن الملك فيصل الذي كان وقتئذ قد اعتلى عرش العراق وفدٌ ملكي تمثّل بكوكبة من خيالة الخيول العربية عدد أفراده مئة فارس، دفن البطريرك غريغوريوس في مدفن البطاركة في حرم الكاتدرائية المريمية بدمشق القديمة.

البعث ميديا