مساحة حرة

الفلاح الجزائري في قبضة الأمن الداخلي السوري!

المشكلة التي لا يلتفت إليها في الأغلب المثقفون العرب، خاصة منهم المعني بالشأن السياسي وأوضاع عالمنا العربي المتقلب، ومن ثُم يغفلها القارئ أغلب مطالعته، وذلك لكونها ذاتية تمس نقد سلوك الباحث السياسي وتعاطيه مع أزمات الشعوب العربية المتلاحقة بسرعة تتجاوز سرعة الصوت التي يتعذّر أحيانا كثيرة على السمع متابعتها، وكادت أن تعصف بكل العالم العربي، لولا أن اصطدمت بسد “سورية”، الذي يقاوم بعناد أسطوري عمليات هدم دولته، بكل روافدها   ومكوناتها. وهنا كان يفترض على الكاتب العربي المعني بالشأن السياسي، أن يتجرد من موقفه الشخصي، وبولي القارئ أهمية عالية لثقة القارئ به، فلا يقتصر على نقل الخبر من مصادر أغلبها غربية اومغتربة، بل ينهض هوبذاته لمهمة الأمانة الإعلامية ومهنيتها، وينتقل بنفسه الى المكان “الهدف” ويقتحم واقعه ويرصد الحدث وتفاصيله، أعلم أن هناك من يقول لقد ذهبنا فعلا الى سورية، لكن أين تحديدا في سورية؟ الغالب الأعم حيث تمكنت الجماعات المسلحة، المدعومة من قبل أصدقاء الشعب السوري (وهم أنفسهم أعداء الشعب الفلسطيني وكل الأمة العربية)؛ لكن وفي المقابل ما تبسط الدولة السورية سلطتها عليه هو الأهم مساحة وعدد مواطنين، أما كان يستحق مشاهدته، والوقوف على واقعه.

أقول هذا، لأن الإعلام العربي فعل فعلته لدى المتلقي، واستطاع أن يقنعه بأن سورية وكل سورية باتت قلب الجحيم، لعل هذه الصورة تبرئ “الكاتب اوالإعلامي” من واجبه المهني، فلا ينتقل الى قلب الجحيم، فضلا عن الاهداف الأخرى المتوخاة من فرض تلكم الصورة؛ ومثالا على هذه الصورة المصنعة فالى غاية بوابة مطار الهواري بومدين بالجزائر العاصمة، وهاتفي الجوال يتلقى رسائل تحذير من الخطر الجدي الذي يواجهني في سورية، بل هناك من  تخطى مسألة التفجيرات وقذائف الهاون، الى التحذير من جهاز الأمن الداخلي (المخابرات السورية) بصفتي كاتبا في صحيفة “رأي اليوم”، والتي لا حاجة للتذكير بتصنيفها في سورية من الاعلام الغير مرغوب فيه بلغة دبلوماسية حتى لا نقول صحيفة معادية ورئيس تحريرها السيد عبد الباري عطوان، حدث عنه ولا حرج.

لكن الموضوعية والمهنية والأمانة المعلقة في رقابنا، والجدية وغيرها، فضلا عن حق القارئ علينا تدفعنا حتما للبحث عن حقيقة الواقع، لا ندعي القدرة على الاحاطة بكل الصورة، كما لا نزعم حسريه الحقيقة بأيدينا نحن فقط، لكن يمكننا القول، إننا نقف على جانب لم يقف عليه كُتّابنا الذين يوجهون سهامهم للقيادة السورية، وقررت من أجل ذلك الذهاب إلى سورية بصفتي الشخصية ككاتب (فلاح) جزائري مستقل على حسابه الخاص، دون أن يتلقى دعوة من أي جهة مسؤولة في سورية.

صحيح أن القيادة السورية استثنت الجزائريين من التأشيرة، لكن عند وصولي فوجئت بسؤال الجمركي عن الشخص السوري الذي يستقبلني، يبدو أن هناك تعليمة داخلية، تأمر بالتحقيق مع كل قادم لأول مرة إلى سورية، وأصدقكم القول أننا شعرت لحظتها بوقوعي على كنز مهم، حين أمر الجمركي بتحويلي الى مكتب الأمن الداخلي، لم أكن استثناء بل حُوّل معي ثلاثة آخرون، طبعا كنت أنتظر مشاهدة تلكم الصورة التي ترسخت بفعل الإعلام عن معاملة جهاز الأمن الداخلي، فالحال أنني جزائري، والمشهد الواقع أن من بين المسلحين والإرهابيين الأجانب من يحمل الجنسية الجزائرية، إذن ليس مستبعدا أن أواجه سلوكا عنيفا ومعاملة حادة، وما كان يهمني أكثر في هذه الحلقة الأولى عند وصولي الى دمشق، هم بقية من توجهوا لمكتب التحقيق، ومن ضمنهم عائلة سورية كانت قد استقال معيلها بداية الأحداث في سورية، ومن جميل الصدف أنه الى وطنه في ذات الطائرة التي أقلّتنا.

دخلنا مكتب الرائد دعونا نسميه (أبو محمد) وبدأ معي بالتحقيق بعد أن جلس الجميع، كنت ألاحظ أمرين لطالما سمعت النقيض عنهما، الأول خوف المواطن السوري من جهاز الأمن الداخلي، والثاني مرتبط بالأول، وهو قسوة رجال هذا الجهاز، وقد بدأ التحقيق معي والذي لم يخرج بنتيجة فاصلة طبعا، فالرائد لم يفهم سفر فلاح جزائري لسورية، وفي هذا التوقيت ولأول مرة، حتى وإن كان لكلمة “الجزائر” فعل السحر على عقول السوريين حبا واحتراما، لكن طرحي لم يقنع أبدا الرائد، وما زاد الطين بلة أن مظهر الكاتب وجهاز الكمبيوتر  المحمول، لا تجعل أي عاقل يصدق بأن هذا الرجل فلاح، الصور النمطية للفلاح العربي ترسم عكس ذلك، كلف الرائد أحد مساعديه بالتحقق من المعلومات في جواز سفري، والتفت الى العائلة السورية، وهذا الأهم بالنسبة لي، فمهما كانت النتيجة معي رقم السفارة الجزائرية معي وعلى السفير أن يخلصني من (وحش الأمن السوري)، الملاحظة الأولى أن الاستقبال ومفردات الحوار كان غاية في الأدب، والمعاملة كانت مفاجئة لي، بل شاهدت جرأة ربة الأسرة في خطابها للرائد، دون تلعثم ولا طأطأة رأس ولا توسل ولا شيء من كل ما توقعته، مع أنها كانت وزوجها محل شبهة، اثر استقالتها بكونهما يتعاطفان حينها مع ما سمي بالثورة، فضلا عن ذلك كانت تنقصها إحدى الوثائق الضرورية،  وكانت ردود الرائد هادئة وغاية في التهذيب، أعلم أن هناك من يحمل هذا الكلام على اعتباره تزينا أو حتى مداهنة لجهة مسؤولة سورية اشتهرت (او شهر بها) عكس ذلك، لكن هل على الكاتب ألا يشهد بما رآى؟ أم عليه تلفيق التهم وابتداع قصص؟. هنا لست أنكر ما رواه البعض على ذمة مصداقيتهم، وإنما أنقل ما شاهدته بنفسي وعشت تفاصليه.

فصل الرائد في إشكالية العائلة السورية، والتي دخلت أرض موطنها تغمرها السعادة، والتفت ثانية لهذا الفلاح الجزائري الغريب، وأعاد الأسئلة ذاتها ليلقى نفس الإجابة،  وبعد لحظات دخل مساعده يحمل جواز سفري ويعلن أمام قائده بأن هذا الرجل ليس فلاحا وإنما صحفي، ما أثار استغرابه بشان عدم التقدم بهذه الصفة، وما رحت أشرح له بأنني كاتب مستقل ولست صحفيا ولا موظفا لدى صحيفة، حتى رن هاتفه: وراح يكرر كلمات أمرك سيدي وحاضر وعلى راسي وغيرها، أنهى المكالمة، ويفاجئني بقوله: كان لدي إحساس بأنك شخص مهم جدا، أنت لست كاتبا فقط سيدي، أنت أكثر منا سورية وانتماء لهذا الوطن، لقد أرسلت القيادة سيارة لتنتقل أين شئت في وطنك؛ وقدم اعتذاره عن التأخير، ويأمر معاونيه بمرافقتي الى السيارة التي كلف سائقاها بنقلي الى الفندق الذي حجزت فيه مسبقا.

في مطار الجزائر جاءتني رسالة مفادها أن مطار دمشق تعرض لقصف بالصواريخ وتم إغلاقه، والرحلة إما أن تلغى أو تحول إلى مطار آخر، لا شيء من ذلك طبعا، بل وجدت ورشة عمل تقوم على إعادة أرضية قاعات المطار وأروقته الفارهة، أكثر جمالا ألوانها وتشكيلات رسومها، والملاحظ أن الطريق الرابط بينه وبين دمشق، والذي شهد منذ عامين عمليات واشتباكات، بلغ الإعلام حولها درجة الزعم بوقوعه تحت السيطرة الكاملة للجماعات المسلحة، هذا الطريق الذي يمتد لعدة كيلومترات ليس آمنا فحسب، وإنما لم ألاحظ تواجد نقاط عسكرية بكثافة مزعجة كما قيل لنا. ما يشعر سالكه بأنه في بلد لا يتعرض لحرب طاحنة بلغت ذروتها أبواب دمشق السبعة.

لم تنتهي مغامرتي مع الأمن السوري في المطار، ذلك أني وبعد استراحة قليلة في الفندق، والاطمئنان على ثبات الحجز وعدم تغيير السعر، خرجت الى دمشق القديمة، التي طالما حلمت بالتجول في أزقتها العتيقة، وأملأ عيني بجمالها الساحر، وأتنفس عبق تاريخ الحضارة الإنسانية الذي يفوح من بين الحجارة التي رفعت بها، لا يتسع المقال ولا الكتب بل ولا حتى البيان لوصف جمال هذا البلد الفاتن، أحمل معي جهاز هاتفي، وألتقط صورا تذكارية، كأي سائح أجنبي، هنا لاحظت الوجود العسكري والأمني بشكل لافت، لكنني تجاهلته ومضيت سائحا في تاريخ هذه دمشق؛  ولم استفق من متعة هذا الجمال إلا على يد تربت على كتفي وصوت صاحبها يقول: يعطيك العافية سيدي، حين التفت وجدت رجلا عسكريا قوي البنية الجسدية فارع الطول، لا أخفيكم الحقيقة هنا شعرت بأن الأمر أكثر خطورة، ففي الأولى كنت في المنطقة الدولية، ثم أنني لم أرتكب أي شيء قد يزعج الأمن السوري، أما هنا فالكاتب في قلب دمشق، ثم ألتقط صورا قد تحسب بعضها تمس الأمن، فضلا عن هذا هناك من الجماعات المسلحة جزائريون، إذن لدى هذا العسكري والذي التحق به ثلاثة من الأمن الداخلي، ما يشكل سببا جديا لاعتقالي والتحقيق مع هذا الفلاح الجزائري، وبالطريقة التي طالما سمعت عنها. لكن المفاجأة كانت في ذات المعاملة بالمطار، أسئلة عادية جدا في مثل الظروف التي تمر بها سورية، معاملة ملتزمة بحق الإنسان، فلا صوتا مرتفعا ولا عبارات مستفزة ولا حدة في الخطاب، بل العكس تماما حتى أنني شككت في كوني سمعت عن هذا الجهاز ما سمعت. وبعد التحقق من جهاز سفري، أخلي سبيلي مرفقا بعبارات الاعتذار والترحيب.

هكذا كان نصف يوم أمس عند وصولي لأول مرة في حياتي لدمشق، وهكذا رأيت بأم عيني وعشت بنفسي وقوعي في قبضة جهاز المخابرات السورية؛ ما كنت لأتعرض لهذين الموقفين، لولم أرى أهمية وضرورة العدل، فإن كان من حق الغير الذي رأى صورة بشعة للأمن السوري، أن يرويها ويوثقها وتتداولها وسائل الإعلام كأنما هو انجاز تاريخي، أفليس من العدل أن يروي غيره ما شاهده بنفسه؟ وإذا كان ليس من حقنا أن نكذب الآخر، فبأي حق ينفي روايتنا؟ هنا أكرر ثانية لا أدعي ملك كل الحقيقة، ولا أنفي ما رواه غيري، ولا أدعي أن هذه سياسة عامة في سلوك عناصر جهاز الأمن السوري؛ كل ما في الأمر تجربة شخصية شاهدت تفاصيلها ونقلتها بأمانة للقارئ.

ختاما، مجيئي لدمشق إنما لمعاينة ميدانية، وكان من الصدف أو من الأمر الطبيعي، أن تكون أولى محطاتها مع الأمن، ولن اكتفي بالحديث عن سورية وأزمتها بالنقل عن الغير، أو حتى بناء على تواصل من بعيد مع الأشقاء السوريين، بل أنقل الصورة بأمانة من الواقع الذي أشاهده، لست معنيا باسترضاء القيادة السورية ولا غيرها، بل كل همي هو البحث عن الحقيقة، والجانب المُغيب إعلاميا عن واقع الشعب السوري.

من قلب دمشق كتب إليكم الفلاح الجزائري

البعث ميديا – رصد انترنت