اخترنا لك

هل بقي للمسلمين غير العلمانية؟

قد يكون توهّمًا، وبعيدًا من العقلانية والمنطق، القول بأنّ الإسلام الذي أغرقته السياسة وزجّه الصراع على السلطة في سرداب دمويّ مخيف، منذ أن لفظ الرسول آخر أنفاسه، هو قاب قوسين أو أدنى من العلمانية التي لم يبق للعرب والمسلمين من مخرج سواها، لأنها عامل أساسيّ يمكنه إعادة الدين إلى روحانيته وجوهره المقدّس، بعدما غمّسه أصحاب خطابه في أوحال ما كان يعرف بالمدنّس. فليس مشهد العنف المسيطر على فضائنا اليوم، مختلفًا عن المشهد الأوروبيّ عشيّة دخول الأوروبيين إلى عالم العلمانيّة، ذلك العالم الذي خرج من رحم الموت والحروب الدينية وتسلّط الكنيسة على رقاب الناس.

وإذا كنّا في مقالة سابقة قد أشرنا إلى أنّ العلمانية، تشكّل نصفًا آخر للدين عمومًا، إذ إنّ الأديان ذات شقّين: الأول يتعلق بالآخرة، والثاني بالدنيا – البوابة الرئيسة المؤدية إلى الآخرة – فإنّ عملية حسابية بسيطة تجعل من الدنيا والاهتمام بها نصفًا رئيسا من نِصْفَيْ الدين. ولكنّ لهذه المعادلة شأنًا خاصًّا في ما يتعلّق بالدين الاسلامي، وما آلت إليه الظروف من مشاهد شوّهت جوهره، وحرفته عن الطريق الذي سار عليه في بداياته زمن الرسول، وفي مرحلة سيرورة الوحي واكتماله.

وبرغم ارتباط مصطلح العلمانية بالديانة المسيحية والحضارة الغربية، إلا أنّ من يقرأ كتاب «هرطقات» للدكتور جورج طرابيشي، يجد أنّ الاسلام أقرب إلى العلمانية من المسيحية، سواء عبر الطرح أم التاريخ أم استخدام المصطلح نفسه، وإن كانت هناك جماعة من المفكّرين القوميين والاسلاميين يرفضونها ويتعاملون معها كدخيل تدميري لقيمنا القديمة السائدة، داعين بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى إيقاع الحدّ على من ينادي بها وممارسة ما يعرف بحرب الردّة عليه.

لقد بقيت الديانة المسيحية قرونًا ثلاثة تقريبًا بمنأى عن المعترك الدنيوي، وظلّت روحانية محافظة على جوهر الدعوة حتى العام 325م، حين اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين المسيحية وراح يروّج لها كنهج حياتي، حتى اكتملت كديانة رسمية للامبراطورية عام 380م على يد الامبراطور ثيودوسيوس الأول. وبقيت بعدها وسيلة استغلال في يد الحكّام والسياسيين، يمارسون بغطائها الديني أبشع أنواع العنف والاضطهاد وإلغاء الآخر، حتى قامت العلمانية، وبدعم من الدولة ذات الأسس الجديدة، فأعيد للدين اعتباره بعد اعادته إلى روحانيته وإبعاده من السياسة التي لم تعمل إلا على تشويه اسمه. وبهذا تكون المدّة الزمنيّة التي استغرقتها عملية انخراط المسيحية في أمور السياسة والحياة الاجتماعية، أطول بكثير من المدّة الّتي استغرقها انتقال الاسلام إلى ما يشبه ذلك. فلم يفصل بين الطرح الروحاني والطرح السياسي في الديانة الاسلاميّة، سوى ثلاثة عشر عامًا حاول الرسول خلالها طرح أفكاره الجديدة لكنه لم ينجح، إلا بعد انتقاله إلى المدينة. وقد نجح في مدة عشر سنوات أن ينشر الدعوة وبطريقة مختلفة عمّا سبق، إذ حصل ترويج الأحكام والشرائع التي يشهد عليها وعلى تحوّلاتها بين ما قبل الهجرة وما بعدها التغيّرُ اللافت، شكلا ومحتوى، بين السّور المكيّة والسّور المدنيّة.

وإذا كانت العلمانيّة، قد رفضتها المسيحية نفسها في البداية، وتبنّتها الدولة الجديدة، عبر فصل الدين عن السلطة والمحافظة عليه وعلى ممارسة شعائره، فإنّ الأمر مغاير في بلادنا العربية والإسلاميّة، إذ إن الاسلام كعقيدة تغييرية، ليس غريبًا عنه ما يطرحه العلمانيون. وهذا يؤكّده انخراط المسلمين في العمل الدنيوي وما كان معروفًا بالمدنّس يوم وفاة الرسول. وقد شكّل يوم الوفاة هذا تقويمًا جديدًا تأسست عليه صراعات سياسية لمّا تزل قائمة إلى اليوم، وأصبحت السلطة هدفًا أُهْرِقَت في سبيله دماء غزيرة، ولم يبق الدين والسمو به غاية الغيورين عليه. وقد استغلت السلطات المتعاقبة حدث وفاة نبيّ المسلمين، ومارست ما مارسته الدولة تحت شعارات مسيحية في الغرب. ولم يبق اليوم من بديل عن العلمانية كمخلّص لهذه الأمّة، ولإعادة الاعتبار الى الدين نفسه، شرط أن تكون أداة اجرائية وأن لا تستحيل أيديولوجيا كما حاول الرافضون لها أن يصوّروها، وقد نجحوا في ذلك حين جعلوها ذات شعار فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني إلغاءه. في حين أن شعارها الأساس هو فصل سلطة الدين عن سلطة الدولة، وجعله كأي فكرة لها حرية الوجود شرط أن تكون فكرة غير احتكارية وتسلّطية. وبهذا يختلف الأمر عمّا كان في الغرب، فالإسلام ليس عدوّا رافضًا للعَلمانية كما المسيحية سابقًا، إنما الدولة الرسميّة عندنا هي التي لم تسع، قديمًا وحديثًا، الى تبني هذا المفهوم الذي له جذر في الحضارة الاسلامية كمصطلح نظري، وتطبيق عمليّ، إذ استخدم مصطلح العَلمانية في كتب تعود إلى القرن الرابع للهجرة، وكان يشكّل معنى شعبويًّا مقابلا للكهنوت، وهذا ما يثبته كتاب «مصباح العقل» للأسقف القبطي ساويروس بن المقفع، حيث ورود كلمة عَلمانيّة من دون تفسيرها، ما يكرّس فكرة تَداولها قبل القرن الرابع إذ لا حاجة إلى شرحها. ويدلّ السّياق على معناها ذي الدلالة الدنيويّة، ما يؤكد فتح عينها نسبة الى (عَالم). ومن ناحية تطبيقية، فإنّ دعوة الأصمعي إلى فصل الدين عن الشعر، في القرن الثاني للهجرة، تشكّل نواة للعَلمانية لا يمكن التغاضي عنها. وليس رفض النظام الرسمي للعَلمانية سوى حاجة لتثبيت حكمه اللاشرعي في معظم الأحيان، فيجعله مستمدًّا وجوده من الغطاء الديني لما بين الدولة وأصحاب الخطاب الديني من مصالح مشتركة للمحافظة على تحكّمهم برقاب العباد.

 

صحيفة السفير اللبنانية