ثقافة وفن

شعراء ولكن..

ربما، لم تعرف البشرية بتاريخها الطويل وفي معظم مراحل نهوض حضاراتها أو كبواتها، لم تعرف عدد شعراء أنتجه مجتمع واحد بظروف متشابهة كعدد الشعراء الذين انتجتهم الأزمة السورية بقصد أو بدونه.
وأنه لمن السهل لأي مستقص يريد أن يتبين حقيقة الموضوع ويفسر هذه الظاهرة الغريبة فعلا، أن يلاحظ ويرى ويدرك، بأنه من بين عشر أشخاص متواجدين في مكان واحد مع بعضهم البعض، فإن واحد منهم على الأقل يحمل لقب “شاعر”.
كيف لا؟ وها هي مقاهينا الشعرية وغيرها من المنابر، تذخر “مشاربها” أسبوعيا بالعديد والجم والكثير من “الشعراء ” -هكذا يُطلق عليهم قبل تقديمهم للجمهور المأخوذ بنشوة الكأس “شعراء”-بحيث صار أن يكون المرء “شاعرا-ة” ،موضة رائجة هذه الأيام، ولا تحتاج إلا لرصف خليط عجيب من المفردات اللغوية إلى جانب بعضها البعض،والقليل من الجمل الشعرية التي تجود بها الشبكة العنكبوتية ستفي بالغرض.
وهذه ظاهرة غريبة فعلا، فلم يبقى تقريبا إلا القليل من الذين قرئوا الشعر وأحبوه لم يجربوا عضلاتهم مع القصيدة ليتحولوا إلى شعراء هكذا بين ليلة و”ضواحيها” كما حدث ويحدث في تلك الزوايا التي تبحث لنفسها ولروادها عن منفرج من ثقل الألم وسطوته كما يخبر القائمين عليها، لتأتي الغرائبية والعجائبية وتكسير كل الشروط الفنية الخاصة بالشعر كفن عريق له أصول وشروط حازمة ليعترف بمن يتقنها انه ممن يحق لهم حمل لواء سلطانه، والخروج عن كل ما هو قانون أصيل في الفن بحجة الحداثة والشعر الجديد المنطلق من كل قيد ، هي السمة الغالبة لنتاج معظم أولئك “الشعراء”.
في الحقيقة صار الشعراء هم السواد الأعظم من المجتمع السوري والقراء هم القلة التي تتهافت تلك المنابر بشدة على اجتذابها لحاناتها الشعرية، كيف لا وثمن كأس شراب في واحدة من تلك الحانات وصل ل أكثر 2000ل.س وربما أكثر – حسب الزبون-، حيث يُطلب إلى الرواد بإحراج أن يذهبوا ويشتروا شرابهم قبل بدء الوصلة الشعرية.
الشعراء أيضا وعلى الرغم من كونهم الفرجة التي سيدوخ الحضور من قصائدها الغرائبية سيكونون أيضا شعراء ورواد في الوقت عينه، سيشترون كؤوسهم ويلقون قصائدهم ليخرجوا كما دخلوا، ليس كما دخلوا تماما فعدا عن الثمن المرتفع للكأس الشعري الذي تجرعوه وجرعوه للحضور، سيرافق كل منهم حلم صغير بأنه شاعر لا يشق له غبار، وهل سيقدر أحدكم بعد أن بلغ ما بلغ “شاعرنا” من مبلغ عتي في الشعر، وبعد أمسية واحدة، أن يقنعه بأنه عكس ذلك؟ شاعرنا “كبرت براسو” وانتهى الأمر، وربما هجر عملا أو وظيفة أو بيتا وأسرة – هذه حالات موجودة، وما رفضنا لتسميتها إلا من باب الكياسة فقط.
المقاه الثقافية أو الشعرية وللتذكير ليست بالشأن الجديد أو المنتج الجديد الخاص بما تمر به البلاد من ست سنوات تقريبا، حيث انتشرت في دمشق وفي العديد من المحافظات السورية، منذ مطلع الألفية الثالثة ظاهرة “الحانة الشعرية” المكان الذي صار بوصفه منبرا شعريا وثقافيا واحدا من الرموز التي تدلل على حب السوريين للشعر واعتباره الفن الأكثر قربا من دواخلهم وعواطفهم، كما أنها كانت ” أي الحانات الثقافية” متواجدة في عواصم عربية أخرى، منها بيروت والقاهرة وتونس، و تلك الظاهرة كانت قد انطلقت بشكل رسمي محليا في “بيت القصيد” الذي كان يقام بصالة الديسكو في واحد من فنادق دمشق، حيث قام “بيت القصيد” بتقديم العديد من الأسماء الشعرية في فقرته – قراءات- كقصائد للشاعر الراحل “رياض صالح الحسين- محمد الماغوط- أدونيس وأخرين” لكن اهتمامه الحقيقي بالشعر لم يستمر إلا لفترة لم تطل،ولم يعد يتخذ من جودة القصيدة وصلاحها لإسماعها للناس شرطا لتقديمها، بل ما شرعنَّ تلك الطلاسم وجعلها تقف كالعارية التي تظن نفسها ترتدي ثيابا وتلقي بترهاتها على السامعين هو شراء الكؤوس والنفوس أحيانا! .
اختفى “بيت القصيد” مع بداية الأزمة، وبقيت ماثلة في الأذهان الكثير من القصص التي أساءت لجمهور الشعر وللشعر فيه، وبعد أن أطلقت الحرب أبواقها، وبعد أن صار – كما يفترض- لكل كلمة وزنها وثقلها وأثرها، وجد المهتمون بالشعر والخمر من الشباب، ضالتهم بتلك الملتقيات الشعرية التي جمعت بين القصيدة والكأس، ربما تيمنا بأبي النواس وقصائده التي تتغنى بالحانات وبغيره من الشعراء ك بشار بين برد والزير سالم، وهربا من ضجيج الموت والنار، فظهرت عدة حانات شعرية أخرى اختلفت فيها التسمية فقط وتشابه المضمون، حتى أن العديد من “الشعراء” حدث وأن تنقلوا في الأسبوع الواحد بين المنبر والأخر، ومن تلك المنابر ” يا مال الشام – عناة – ملتقى أضواء المدينة” لينضم إليها فيما بعد “ثلاثاء الشعر” – الذي أظهر اهتماما ابلغ بالحالة الشعرية، وذلك من خلال إصداره كتاباً شعريا ضم خمس تجارب لخمسة أسماء شابة غير معروفة وهي تنشر للمرة الأولى-، وهكذا صار لكل “شلة” شعرية في دمشق، حانتها الشعرية الخاصة، وبدأت حرب مخفية بين القائمين عليها، حرب ضروس شهدت الصفحات الزرقاء على “ملاحمها” وفضائحها، حتى أن أحد تلك الأماكن تم إغلاقه لأسباب أخلاقية وقانونية لا تحتمل “التطنيش”، وربما لو حدث أن تصدر شاعر أو شاعرة سورية المشهد الشعري المحلي والعربي باتفاق حقيقي من محبي الشعر خصوصا، لقلنا أتت تلك الحانات أكلها، لكن هذا لم يحدث!.
وكان من المفاجآت التي فجرها المشهد الشعري السوري خلال سني الحرب، هو ظهور “تشكيلة” من شعراء الوقت بدل الضائع، الذين لم تعجبهم كل فنون الشعر العربي، لم يعجبهم المتنبي ولا أبو النواس ولا عنترة ، ولا أبو تمام، ولا الجواهري وغيرهم من الفحول، ولم تعجبهم أيضا قصيدة النثر بروادها الأشهر الماغوط وانسي الحاج و منذر مصري وعلي الجندي وسنية صالح وغيرهم ،لم يعجبهم نتاج هؤلاء أيضا فتوجهوا نحو قصيدة “الهايكو” وقصيدة الومضة وقصيدة اللحظة وأسماء أخرى ما انزل الله بها من سلطان في عوالم الشعر والقصيدة.
بالتأكيد هذه الوفرة بالشعراء هي شان ايجابي يمكننا أن نبني على حالته الكمية التراكمية، أملا بان ثمة من سيشق رداءة هذا المشهد ببزوغ نجم شاعر-ة ،يقدم نتاجا شعريا يليق بقافلة الشعراء السوريين ، تلك القافلة الممتدة من العصر “”الهلينستي وحتى اللحظة، وهذا ما يجب أن يحدث فمن غير المعقول أن تبقى تلك الحانات الشعرية عاقرا أبدا، على الأقل هي لم تكن كذلك في زمن أبو النواس وبرد والمهلهل.

تمّام علي بركات