مساحة حرة

“نق” مُنوع

كلما ضاقت بي الدنيا أذهب إلى الشباك أو أقف على الشرفة لأطل على الدنيا، أعاين السماء، أخذ نفسا عميقا أصحو به من خدر الجلسة خلف شاشة الكتابة، أراقب مرواح الناس ومجيئهم وأتساءل أين يذهب الجميع باكرا هكذا، لكن هذا لا يحصل، فالنافذة والشرفة حيث أسكن بما تعنيانه من متنفس للبيت وأهله، هما ترف ، ليس لي فقط بل لأغلب سكان العشوائيات، حيث الشرفة تطل على شرفة الجيران، والسماء تحجبها مناشر الغسيل، فلا يبدو منها في إلا نقط زرقاء مبهمة.

الحديث عن تنظيم العشوائيات صار حديثا مملا وساذجا، فما من عشوائيات قابلة للتنظيم، خصوصا في ظل أزمة السكن الخانقة التي تحاصر الناس، لكن يطيب لنا بين الحين والأخر أن “ننق”، و “النق” يا سادة ليس حديثا جادا أو يعتز به، ففي حين يرد معنى “النق” في المعاجم العربية على كونه صوت الدجاجة، صار له لدينا في الحياة المعاصرة معنى أخر، فإذا أراد الرجل التهكم من زوجته قال لها : بلا نق.

معتبرا بذلك أن حديثها الذي يأخذ شكل المطلب اللحوح والضروري “جرة غاز-فروج-فواكه-مازوت-زيت-زيتون” وغيرها من الحاجيات الضرورية للبيت، أنها “نق” ،الرجل كما الكثير من مواطنيه يحتفل براتبه في الأيام الثلاثة الأولى للشهر،وفي هذه الأيام لا يعتبر أن بعض تلك المطالب “نق” فالبيت بحاجة لها،لكنه بعد ذلك وعندما تبدأ جيوبه تشتاق ليديه، يصبح أي حديث بالنسبة له يحمل شبهة المطلب الضروري “نق”.

أيضا لدينا نوع مميز من “النق” وفي هذا النوع يحمل”النق” معنى أخر وبعدا أخر وكوكبا أخر ربما، إنه يا سادة “النق الثقافي” فلا زال ولا برح ولا فتئ ولاة الأمر القيمون على هذا الشأن، يعتبرون الحديث عن تردي الحالة الثقافية في البلاد بشكل لم نعهده سابقا هو “نق” والحديث عن مهرجانات سينمائية لا تحمل من معنى المهرجانات إلا أسمها هو “نق” والحديث عن الكوارث الحاصلة في شاشاتنا الوطنية ببرامجها الثقافية وريبورتاجاتها الإخبارية الضحلة”نق” والحديث عن فعاليات وتظاهرات ثقافية، في وقت السلم ليس مقبولا وجودها فما بالكم بوقت الحرب، هو “نق” والحديث عن دراما تلفزيونية متهرئة البطانة مزركشة المظهر”نق” والخوض في شأن خشبات مسارحنا التي باتت أشبه “بالتكية السليمانية” أيضا “نق” ولو لم يكونوا يتعاملوا مع ما سبق ذكره وغيره من أحوال الناس” نقا” لكانوا تحركوا بشكل فعال لتغييره، بالفعل وليس باللسان.

تمّام علي بركات