قِنــاع سـياســـي للإرهــاب
كان يصعب على المتابع لقضايا التاريخ المعاصر أن يتصور في يوم من الأيام أنه سيرى وزراء خارجية ودبلوماسيين لا يختلفون عن زعماء القاعدة والنصرة وداعش، فها نحن اليوم نرى فروقاً طفيفة لا تتعدى المظهر، إن لم يكن تماهياً إلى حد كبير، بين وزراء خارجية تركيا وقطر والسعودية مع الظواهري والجولاني والبغدادي. وأي غرابة في هذا فقد سبقتهم إلى ذلك واعترفت به “المعلّمة” السيدة كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق؟!
وإذا كانت الحال على ما نشاهده ونسمعه ونقرؤه، فمن الطبيعي جداً إذاً أن نرى الإرهابي يصل إلى الأمم المتحدة ومنصّاتها ومنظماتها بالأصالة عن نفسه، بعدما طال وصوله إليها بالنيابة.
وأخيراً صار للإرهابي صوت وصورة، بل مقعد في المجتمع الدولي، يحمل حقيبة الدبلوماسي ويرتدي هندامه ويتزيّا بزيّه وبربطة العنق نفسها، يصحبه المترجم والكاميرا وتتابعه العدسات والفضائيات والمشاهدون من أربع جهات الأرض. وها هو يقفز من الجحور وظلامها إلى أرقى الفنادق والمطارات والعواصم. فبعد دعمه بالمال والسلاح أتت رعايته بالدبلوماسية، ويبدو سيكون له في الغد عطره الخاص ورائحته المميزة، وطموحه إلى مقعد في مجلس الأمن؟!.
وبعد أن صار للإرهابي ثقافته الخاصة، ومعجمه السياسي المعاصر الطامح إلى سرديات جديدة يحق له أن يحلم بها بعدما قلّب العين والقلب والعقل فرأى ما رأى من مآل إرهاب الدولة في الكيان الصهيوني حيث الطموح الجامح إلى الوصال من عدد متزايد من العواصم “العربية والإسلامية”، فلماذا لا يحظى إذاً إرهاب العصابات التكفيرية بما حظي به إرهاب الدولة في فلسطين المحتلة؟!
هذه الثقافة الخاصة التي يستنهضها أردوغان وابن سعود وابن ثاني بخبث من أعماق التاريخ بفتَنِه البغيضة تجعلنا نتصوّر هؤلاء وكأنهم قادة مجموعات من تورابورا إلى حضرموت، ومن الزنتان إلى الأنبار، ومن العريش إلى عرسال وصولاً إلى أرض الأحلام في إدلب !!.
نقول ذلك لا قلقاً ولا حسداً، بل لنؤكد ما لا يمكن نكرانه من أن دائرة القناعة الشعبية والرأي العام العالمي تزداد مساحة واتساعاً بأن الجمهورية العربية السورية -شعباً وجيشاً وقائداً- تحتل مركز الصدارة في محاربة الإرهاب منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقد كانت دعوة القائد المؤسس حافظ الأسد واضحة جداً في تلك الأيام، كما أن الصمود الأسطوري لسيادة الرئيس بشار الأسد في التصدي التاريخي لمحاربة الإرهاب كمعترك مصيري يهدد الوجود والحدود هو ظاهرة كبرى تزداد مساحة الاعتراف العالمي بها في الغرب والشرق.
ونقول ذلك أيضاً ونحن نتابع عثَرات المسار السياسي لحل الأزمة في سورية منذ جنيف1 حزيران 2012، إلى جنيف2 أواخر 2014، إلى جنيف3 آذار 2016، إلى جنيف4 الجاري، مروراً بجولة محادثات فيينا تشرين الأول 2015 واجتماع فيينا تشرين الثاني 2015، وبأستانا آخر أيام 2016 وما تلاه في 2017، وفي هذا جميعه كنّا نرى بأم أعيننا المناورات الدولية الكبرى لأطراف الحرب على سورية والرامية إلى تسويغ وتجميل وتكريس القناع السياسي للإرهاب، وإلى حق المتاجرة والاستثمار في الإرهابي. فهل لصاحب عقل ووعي ومصداقية أن ينكر اليوم أننا نفاوض إرهابيين بكل معنى الكلمة؟. ففي هذه المتاهة “رحلة البحث عن سورية” كانت العين اليقظة لقيادتنا بالمرصاد ميدانياً وسياسياً.
وكيف لمتابع ألّا يحذّر من أن المسار السياسي الذي نقدم عليه ببسالة وتعقّل كإقبالنا في الميدان، هو الذي يعزز القناع السياسي للإرهاب ونحن نسمع في جنيف4 ما سمعناه ورأيناه في ميونيخ 53 من تعميق للفرقة الإسلامية، وترسيخ للشرخ العربي بناء على تصريحات منصّة الرياض الطامحة إلى الاستلاب والاستبداد بالأطراف الأخرى.
وعليه، فوفد المعارضة لن يكون واحداً، ولن يكون موحّداً بسبب مأجورية هذه المنصّة وأحلامها الشيطانية التي حاول أن يعززها الجبير بزيارته بغداد بالأمس أملاً بالانتقال من الشرخ العربي العربي، إلى الشرخ في النسيج الوطني والاجتماعي.
بالمحصّلة نحن ذاهبون إلى محاربة الإرهاب لا إلى تظهيره، ولن يُفضي المسار السياسي أبداً إلى الانتقال من محاربة الإرهاب إلى دعمه.
د. عبد اللطيف عمران