مساحة حرة

الإعلام بين الشعارات والبزنس!

تغيرت كثيرا الشعارات التي رفعها الإعلام ليبرر وجوده بين الناس، فمن نقله الخبر إلى قولبة الخبر ومن قولبة الخبر إلى صناعة الخبر، الذي أصبح شعاره الآن بعد أن تحول إلى صناعة: “لمَ تتكبّد عناء نقلِ خبرٍ حين تستطيع صناعته؟” وصناعة الخبر اليوم، هي واحدة من أهم وأخطر ما يقوم به الأعلام، كما أنها من العلوم التي تدرس في الجامعات العالمية، والمثل الشهير عن كون أن كلبا عض إنسان هذا ليس خبرا، أما أن يعص الإنسان الكلب فهذا الخبر!، وخبر يحمل هذا المفهوم لا بد له من عقول صناعية تديره وتعرف تماما متى وأين وكيف توظفه كما تريد.
ولكن كيف تم ذلك ومتى، وكيف صارت لصناعة الخبر هذه الأهمية التي عرفها العالم كله، وعرف مدى خطورتها في الرأي المحلي والعالمي، في الحقيقة لهذا الجواب قصة ليست بالقديمة ولا بالجديدة، لكنها كانت الشرارة التي بدأ فيها الأعلام بالتحول إلى مصالحه الخاصة على حساب رسالته النبيلة.
ففي عام 1911 حظي الإيطالي “فينشينزو بيروجيا” بعقدٍ مؤقّت للعمل في متحف “اللوفر” كنجّار, مرّت الأيّام وانتهتْ مُدّة عقده, وبينما كان يُنفق آخر فرنكاته الّتي جناها في مقاهي باريس, جاءه النصّاب الأرجنتيني “إدواردو دي فالفييرنو” الّذي كان يعرف أنّه كان يعمل في اللوفر, وعرض عليه ثلاثين ألف دولار أمريكي مُقابل أن يسرق له لوحة “الموناليزا” من المتحف, وكان ذلك المبلغ ثروة حقيقية في ذلك الوقت.
وبما أنّ “بيروجيا” كان فلورنسياً أصيلاً, فقد أقنع نفسه أنّه لا يحقّ للفرنسيين الأوغاد الاستيلاء على لوحة “بلديّاته” دافينشي, وتمّت العملية بسهولة ويُسر حيث أنّه اكتسب خلال فترة عمله معرفةً بِروتين الحراسة والتأمين في المتحف, وهكذا تصدّر خبر سرقة “الموناليزا” الأخبار حول العالم في ذلك الوقت.
احتفظ “بيروجيا” باللوحة في شقّته في انتظار “دي فالفييرنو”, الّذي جاءه حاملاً المال الّذي وعده, لكنّه طلب منه الاحتفاظ باللوحة لبعض الوقت إلى أن يتدبّر أمر نقلها إلى الولايات المتّحدة, أخذ “بيروجيا” المال ووافق على طلب “دي فالفييرنو”, واحتفظ باللوحة, ومرّت الأيّام والأسابيع ولم يظهر “دي فالفييرنو”, احتار “بيروجيا” وقرّر العودة مع اللوحة إلى مسقط رأسه ومسقط رأس رسّام اللوحة وصاحبتها في مدينة “فلورنسا”, حيث احتفظ بها هُناك في غُرفة نومه, وطفق يُنفق من المال الّذي جناه مُدّة سنتين إلى أن انتهى، فقرّر أن يُحاول بيع اللوحة عام 1913, وهكذا تمّ القبض عليه بعد أوّل مُحاولة وأُعيدتْ اللوحة إلى اللوفر.
انتهتْ قصّة “بيروجيا”, ولكن أين ذهب الأرجنتيني “دي فالفييرنو”, ولمَ دفع ثروةً من أجل أن تُسرق اللوحة دون أن يسأل عليها لاحقاً؟ هذا يعود بنا إلى ما قبل ستّة أشهر من عملية السرقة, حين ذهب “دي فالفييرنو” إلى أعظم مزوّري العالم في ذلك الوقت “إيف شادرون”, وطلب منه أن يرسم ستّ نُسخٍ مُتقنة من “الموناليزا”, واستطاع “شادرون” رسم النُسخ بشكلٍ لا يستطيع “دافينشي” ذاته فعله, بعدها توجّه “دي فالفييرنو” إلى الولايات المتّحدة, وانتقل من ولاية إلى أُخرى ليُقابل ستّةً من أكبر وأغنى جامعي اللوحات في العالم, وسأل كلَّ واحدٍ فيهم: إذا أتيحتُ لك الحصول على “الموناليزا” هل أنت مستعدٌّ لدفع ثلاثمئة ألف دولار من أجلها؟ وبالطبع كانت إجابة كلِّ واحدٍ منهم أنْ نعم بالتأكيد.
عاد “دي فالفييرنو”, وعقد اتّفاقه مع “بيروجيا”, وتمّت السرقة, وانتشر خبر سرقتها في كلّ العالم, فتوّجه “دي فالفييرنو” مجدّداً إلى الولايات المتّحدة, لكن هذه المرّة حاملاً لوحاته المُزيّفة الستّ, ليبيع كلَّ واحدةٍ منها لواحدٍ من جامعي التُحف الأثرياء الستّة, وهكذا يُحقّق مكسباً وقدره مليون وثمانمائة ألف دولار أمريكي, وعاد إلى الأرجنتين بتلك الثروة ليعيش ملكا.ً
لم يحتج “دي فالفييرنو” إلى “الموناليزا” بل إنّه لم يكترث بها مُطلقاً, فهي لا قيمة لها بالنسبة له, كلّ ما احتاجه منها هو خبرٌ صغير, خبرُ اختفائها، وهذا ما أراده وحصل عليه، وهكذا صارت صناعة الخير هي جزء لا يتجزأ من العمليات الكبرى التي تقوم بها بعض الدول ب الهجوم على دولة أخرى بسبب خبر لا صحة له من الأساس، كما حصل في العراق مثلا بعد أحداث 11 أيلول، التي أعطت لمفهوم صناعة الخبر بعدا خطيرا لم يكن موجودا من قبل، وصار لزاما على الأعلام أن يجابه هذه الظاهرة الخطيرة، ويعمل على تفكيك بنيتها بطريقتها نفسها، أي صناعة الخبر المضاد، وهذا ما لم نراه للأسف حتى اللحظة في إعلامنا، الذي يقف في موقف من يردّ، بينما عليه في الحقيقة أن يهاجم إذا أراد أن يكون مؤثرا، وهذه حرب والحرب خدعة، والأعلام واحدا من خدعها التي يجب اتقان كل تطوراتها.

البعث ميديا- تمّام علي بركات