مساحة حرة

إشكاليّة “تخفيف التوتر”

كانت الجمهورية العربية السورية في طليعة المرحّبين باتفاق أستانا4، والأكثر انتصاراً لتطبيقه انطلاقاً من معطيات وثوابت معروفة وواضحة تماماً.

وقد لاقى هذا الاتفاق وفق صيغة مناطق تخفيف التوتر ترحيباً دولياً، لكن مايزال الأمر بانتظار ما سيُطرح في مجلس الأمن حول تطبيق هذه الصيغة على الأرض، إضافة إلى مسألة إقرار الخرائط الجغرافية لمناطق هذا التخفيف، خاصة بعد أن أكدت الحكومة السورية أول أمس على لسان السيد وزير الخارجية على مسألة السيادة ومسألة وحدة الأرض: “تقع مناطق تخفيف التوتر إلى ما بعد الخط الذي يقف فيه الجندي السوري”.

هذا الترحيب الواضح مبدئياً، قابله الاقتران بعدد من الإشكاليات التي لا يمكن تجاهلها، ولا يصح القفز فوقها إذا كان الهدف هو نجاح صيغة تخفيف التوتر، ولاسيما أن أغلب التحليلات السياسية والاستراتيجية لمضامين وأبعاد هذه الصيغة لم تستطع حتى الآن أن تنأى عن عدد من المفردات المتكررة والتي تصفه بالغامض، ومن المبكر الحكم عليه، وغير واضح، وهو بانتظار التطبيق. ما يؤكد حقيقة أن في الأمر عدداً من الإشكاليات الجوهرية، ولعل من أبرزها التالي:

<  إن التركيز على الخرائط الجغرافية على الأرض لن يصرف اهتمامنا عن خطر ما زرع خلال الأزمة في العقول حيث تمت مصادرة الوعي والإرادة والانتماء عند قطاعات واسعة من جماهير شعبنا وأمتنا، ما يؤكد أن الخرائط  الجغرافية قد لا تتطابق مع “خرائط الاستلاب العقلي” الذي صادر أصالة الوعي وحرية الإرادة.

< يبدو أن من أهم هذه الإشكاليّات دخول المجتمع الدولي في “عصر المرتزقة” بحجة الدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعوب، وتجنيد المرتزقة من بلاك ووتر إلى داعش والنصرة.. بالبترودولار السياسي لخلق صنّاع قرار في عواصم ومطارات وفنادق الأطلسي والرجعية العربية. هؤلاء المرتزقة فعلوا ما فعلوه في أفغانستان والعراق سابقاً، وهم الذين يُراهن عليهم في ما يسمى الربيع العربي. إضافة إلى أن هذا الارتزاق بدأ يفصح عن نهمه وجشعه ورهانه على المال السياسي على نحو ما عرفناه مثلاً من ثقل الحريريّة السياسيّة في المنطقة. ويبدو أن المال السياسي أدى دوراً في نجاح ماكرون، وهو شعار وطموح عند ترامب الذي يعقد صفقة في قراره السياسي كما يعقدها في شركاته.

ومن هذا القبيل قرأنا عدداً من الآراء حول زيارة ترامب المقبلة إلى السعودية والتي توضّح كيف أنه يتناسى كرهه التطرف الإسلامي مقابل جني المال من حكام الوهابية السعودية. فلطالما تعاون الغرب سياسياً مع المتطرفين لأسباب اقتصادية بعيداً عن القيم والأخلاق. وفي هذا السياق تعمل الإدارة الأمريكية على تحديث دور “المرتزقة” وتطويره بالمال الخليجي خاصة في سورية والعراق البلدين اللذين لم يتم تخيّرهما عبثاً.

< استمرار إشكاليّة فصل المعارضة على الإرهابيين، وهذه الإشكاليّة لاتزال حاضرة محلياً وإقليمياً ودولياً، وستبقى في سياق التأويل والاجتهاد والرهان على خلاف لن يكون من السهل حله.

< اختلاط مفهوم الضامن ولاسيما التركي، بمفهوم الداعم والمشغّل، وتورط الضامن مع الداعم مع الإرهابي في شبكة من العلاقات والتحالفات التي لايمكن جسرها في زمن قصير محدد مبدئياً بستة أشهر ضماناً لنجاح صيغة تخفيف التوتر.

< تشابك مهام غرف القيادة المركزية لاستهداف سورية وطناً وشعباً وقيادة، واختلاط هذه المهام بين غرف الموم والموك، والحر، والمعتدل، والإرهابي… وكل له مطامحه وأحلامه الخاصة.

< التداخل والتشظّي وسرعة الاندماج والتفكّك للعصابات المسلّحة، والانتقال الاعتباطي من الجيش الحر، إلى داعش، إلى النصرة، إلى بقية الفصائل والتشكيلات التي يصعب حصر عددها ومسمّياتها، إضافة إلى وجود خلايا نائمة بين كل فصيل تعمل ضده لصالح فصيل آخر، علاوةً على الاقتتال الذي لم يتوقف بين هذه الفصائل، هذا الاقتتال الذي لا يوجد ضمانه لتوقّفه حتى بعد ترسيم خرائط مناطق تخفيف التوتر.

< كما أنه صار صعباً الرهان على وجود نوايا صادقة إقليميّة ودوليّة تصب في مصلحة وحدة الأرض والشعب والقرار الوطني والعروبي للجمهورية العربية السورية ولاسيما بتركيزها المعهود على الوحدة الوطنية والعيش المشترك، واقتران الهمّ الوطني بالهمّ القومي، مع الإيمان بالقضية المركزية التي يتناسب الاجتهاد والعبث بها طرداً مع استهداف سورية.

هذه الإشكاليات لا تخيفنا، ولا تذرو ترحيبنا السابق بأستانا4 وبمناطق تخفيف التوتر، لأننا لا شك نأخذها بالحسبان، وسيتم التعامل معها وفق الثوابت والمعطيات الوطنية المتوافرة والكامنة، ومثال ذلك سرعة رد محور المقاومة على الشبهات التي أثارتها مناورات الأسد المتأهّب التي قابلناها بالرصد والجاهزية والاستعداد.

د. عبد اللطيف عمران