مساحة حرة

الأمن الوطني ضرورة قوميّة

 

لاشكّ في أنَّ الأقطار العربيّة، والوطن العربي جميعاً تمرّ في ظروف تكاد تكون استثنائيّة لم يشهد لها تاريخها مثيلاً من حيث تعدّد حالات الاستقواء بالعدو، واستعانة الشقيق بالخصوم الحقيقيّين على شقيقه.

هذا المناخ من التشرذم والانقسام الذي ترزح تحت وطأته الأمّة العربيّة كان له آثاره السلبيّة أيضاً على الأمّة الإسلاميّة وعلى شعوبها كافة، فلطالما كانت العلاقات بين العروبة والإسلام عضويّة، فتقوى كل  منهما بقوّة الأخرى وتضعف بضعفها. ولهذا تنعكس سلبيّات الواقع العربي المعاصر على المسلمين عامة في مختلف البلدان: بلدانهم “أوطانهم” وبلدان المهجر والاغتراب.

واليوم ترخي حالات اليأس والإحباط بظلالها الكئيبة على الأجيال الطالعة إلى المستقبل العربي والإسلامي، كما تقف أجيال الأربعينيّات والخمسينيّات والستينيّات حيارى أمام هذا الواقع المتردي والذي لم تكن تحسب له أي حساب من بين ألف حساب، مايجعل مناخ القلق وترقّب المفاجآت مخيّماً على عقول الأجيال، فيغدو ما كان مستحيلاً توقّع حدوثه أمراً طارئاً ومتحقّقاً في الواقع. ويبدو أنَّ زيارة السادات إلى القدس المحتلة كانت الحلقة الأولى في هذه السلسلة التي وطّدت حضور المشروع الصهيوني على أنقاض المشروع القومي العربي… وصولاً إلى ثنائيّة العار الراهنة بين السعودية وقطر. وما سيلحق بها من أذيّة على الأمّتين العربيّة والإسلاميّة بسبب نشاط العُصيّة الصهيوأمريكية واستحكامها بالجسد العربي والإسلامي معاً.

في هذا الواقع المرير الذي تصدّع فيه مفهوم الأمن القومي العربي فكراً وعملاً، وتراجعَ العمل العربي المشترك أولاً نحو تكتّلات إقليميّة مراوغة، كمجلس التعاون لدول الخليج العربي، والاتحاد المغاربي، وصولاً إلى سياسات قُطْرية محضة انعزالية بدعوى السيادة والقرار الوطني المستقل.. إلخ، في هذا الواقع من الانكفاء اتضح جليّاً تحقّق نظرية الثيران الثلاثة بحيث استُهدف بسهولة الأمن الوطني والعيش المشترك، والقوّات المسلّحة في كل قطر عربي على حدة، فتكامل الخلل في الأمن القومي مع الخلل في الأمن الوطني وصار العرب أمّة وأقطاراً على ما هم عليه من أسوأ المشاهد على مسرح الحياة الدوليّة المعاصرة. فكان حصاد حركة التحرّر الوطني والاستقلال العربي هشيماً ومريراً بعد أقلّ من خمسة عقود.

إنّه لمشهد ماقبل جاهلي حقيقةً، وخاصّة حين يمعن المرء في صفحات تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وفي الكتابات المشرقة والفاعلة للنهضويين العرب مسلمين ومسيحيين في القرن الماضي. وإنه أيضاً لمنعكس مرير لظاهرة انكفاء التيار التقدّمي في العالم.

ويدرك العروبي اليوم أبعاد ومخاطر الأنظمة التي تعمل ضد بلدانها وضد أنفسها وهي تستدعي الخصم ليكون نصيراً لها في تورّطها بمعاداة الأوطان والأمّتين العربية والإسلامية، أنظمة تفرّط بالأمن الوطني وبالأمن القومي وبحق الشعب العربي في مقدّرات أمّته وثرواتها، فالحرب التي تقودها السعودية على اليمن تبدد شهريّاً 6 مليارات دولار، وعبث دول الخليج العربي بأسعار النفط نكاية بروسيا وإيران أدى إلى خسارتها في السنة 427 مليار دولار ذهبت لدعم الاقتصاد الأمريكي الداعم للمشروع الصهيوني. هذا غيض من فيض ما يبحث ويندد اليوم به العروبيون.

ويُتوّج هذا العبث بالنتائج الكارثية لزيارة ترامب إلى الرياض وما أعقبها من عقود، ومن نشوب «المسألة القطَريّة» ومن اتهامات متبادلة بتقويض الأمن الوطني والإقليمي والقومي، ومن المثير مثلاً تأكيد قرقاش الأمارات “إن المصرف المركزي القطري لطالما موّل العمليات الإرهابيّة في المنطقة”، وكأنَّ أموال السعودية والأمارات وسياسات تركيا كانت بمنأى عن تقويض الأمن الوطني والقومي العربي؟!.

إن الظروف الراهنة تجعل من الحرص على الأمن الوطني ضرورة، كما تجعل العلاقة عضويّة بين الأمن الوطني والأمن القومي، وهذا الحرص يستدعي أول مايستدعي مواجهة مخطّطات التفتيت والتقسيم، وتأكيد أنَّ العرب وإن كانوا شعوباً وقبائل وأطيافاً وأعراقاً وطوائف في مختلف أقطارهم، إنما هم أمة واحدة تاريخيّاً تمتزج الوحدة فيها بالتنوّع في أفق حضاري لا يُنكر.

يتألّم العروبي اليوم في كافة أقطاره وهو يرى آثار حجم المؤامرة الكبرى على سوريّة، ويعرف بانتمائه وبآماله وآلامه مدى الخسارة القوميّة جرّاء ذلك، ويتطلع بلهفة وشوق إلى انتصار سوريّة شعباً وجيشاً ونظاماً سياسيّاً، ويكبُر بحدسه صمودها وهو على يقين بأنّ هذا الصمود الوطني سيكون منجزاً قوميّاً وتاريخيّاً تنطلق منه الأمة بأبنائها وأقطارها كافــــةً لتبني عليه أسس تحرّرها وخروجها من التحديات المتشابهة على حامل التطرف والتكفير.

إن صمود سورية، وانتصارها الناجز أمل يترقّبه الشارع العربي، وتبيّن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي مع الأجيال في مختلف الأقطار العربيّة كيف أنَّ هذه الأجيال التي أقلقها الواقع لم ولن تنهار، وهي تعرف قيمة القوّة الكامنة في الشعب العربي وفي الأمّة العربيّة، هذه القوّة هي التي يُراهن عليها، والتي سوريّة قلبها «وستبقى العروبة عنواناً لانتمائنا وملاذاً لنا في الملمّات، كما ستبقى قلبها النابض بالمحبة والعنفوان» كما أكد القائد الأسد في خطابه في 7/6/2016، في حين تُواجَه مثل هذه الخطابات والمقالات بحصار إعلامي مايتطلب تفعيل حضورها على محركات البحث.

د. عبد اللطيف عمران